على رسلك أيها الفتى (4) الهجرة وحصار الفوضى

(كن منظما مرتبا ولا تكن فوضويا مستعجلا)


عاطف أبوزيتحار


إمام وخطيب ومدرس بالأوقاف


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


صلينا الجمعة على بركة الله وبعد الصلاة ركبنا سيارة صديقي العزيز، وتوجهنا إلى مستشفى ... التخصصي لزيارة والد أخ لنا في الله ، وفي الطريق دار الحديث بيننا عن الجدار الفولاذي ، وما يحدث على حدود غزة العزة ، بدأ الحديث هادئا ثم تدرج رويدا رويدا
لينفعل صديقي العزيز ضد النظام وخصوصا بعد أن عدد الجميع واتفقوا على مساوئه الكثيرة التي لا تعد : من البطالة ، والأمراض المستوردة ، وتدهور التعليم ، والسياسة الخارجية الفاشلة التي أدت إلى تشويه صورة المصري في كل مكان ،وتسييس المؤسسات الدينية ، والتدخلات الأمنية فيها ، وانتشار الجريمة والمخدرات واعتقال العلماء ، وحملة الفكر وقادة الرأي في وضح النهار ، وموالاة اليهود الأعداء ومدهم بالغاز ومواد البناء ودخولهم إلى سيناء وكأنها أرضهم وأرض أجداهم والانحياز الكامل والتبعية العمياء لهم ، ومعاداة الأهل والخلان ، وسرقة قوت البلد ، والتجييش الأمني ضد الشعب المسكين والمقهور، وتولية العاجزين وتنحية الكفاءات ، وانتشار الرشوة والغش، واحتكار الاقتصاد والثروة في السلطة الحاكمة ، وقضية التوريث في الحكم ،وانتشار الغلاء ،..... فمل صديقي وأصيب بإحباط شديد وهدأ من سيره ، ثم خلع غطاء الرأس ، وقام بتشغيل مكيف السيارة رغم برودة الجو ، ثم قال بعد أن انفعل وظهر ذلك على جبينه ،( هذا الكلام مش نافع يا عم الشيخ) هذا النظام لن ينفع معه هذا الأسلوب لابد من تغييره ومواجهته أما شغل الكلام النيئ الطري ما ينفعش أبدا ...فابتسمت رغم انفعاله وغضبه الشديد وقلت له كيف ؟ قال : نواجهه بالقوة قلت : دلني على طريق القوة التي تغير بها ؟ وأنا تحت أمرك أول المشاركين !!! وهذا من باب الاستدراج له في الحديث ، فقال لي : نخرج جميعا للتظاهر قلت له: تظاهرنا واعتقلونا في الميادين العامة وجيشوا الأمن المركزي ضد العزل في كل مكان وقتل بعض الإخوة كما تعلم ومازلنا بالطريقة السلمية قال : لسه بتقول سلمية دول عاوزين مواجهة مسلحة قلت له ومن هؤلاء الذين يستحقون هذه المواجهة المسلحة ؟ قال هذا النظام ورجال الأمن والحرامية والنشالين والخونة والعملاء قلت له: أخي الحبيب : وفي وجه من سترفع البندقية أو العصا أو السكين؟؟؟ ...أليس هذا المسكين الذي يقف لا حيلة له أخي وأخيك قريبي وقريبك ؟؟ هذه المؤسسات التي تريد أن تذهب إليها ملكي أنا وأنت ، ثم أخي هل قرأت أحاديث النهي عن قتل المسلم وترويعه ( فكيف لك بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ ) يا أخي الكريم ، هؤلاء إخواننا وبغوا علينا وليس لنا إلا الطرق السلمية المعروفة وكلما وجدنا منبرا للتعبير استخدمناه .. ثم أخي الكريم أتعرف أن الفوضى جرثومة تأكل الأخضر واليابس لا تبقي شيئا أبدا وخطورتها على مقاصد الدين أكثر من خطر هؤلاء عليه ، ثم أخذت أتحدث معه عن هذه الخطورة وكيف يلعب الأعداء عليها كما حدث في العراق وأفغانستان والصومال والسودان ....وفلسطين لولا حنكة وفطنة إخواننا في حماس ، وقلت له إن كان الأعداء قد تلاعبوا بهذه الأنظمة لبث الفوضى في المجتمعات فلن تصل إلينا أبدا ، وستأتي اللحظة التي نغير فيها كل هذا إنشاء الله تعالى ، بالطرق السلمية التي آمنا بها ، وتربينا عليها ، ولن نتخلى عنها مهما حدث ، ومهما ظلمنا أو أسيء إلينا ، وشعارنا السلمي ما قاله بن تيمية رحمه الله : ماذا تصنعون بي ؟ إن قتلي شهادة ، وإن سجني خلوة ، وإن نفيي سياحة .


مع عدم رضائنا بما يفعلون من فوضى وينشرون من فساد ، ونعلم علم اليقين ونؤمن من أعماقنا أنهم في واد ونحن في واد ، مع إصغائنا الكامل إلى العز بن عبد السلام من وراء القرون، وهو يرد على رسول الملك الصالح إسماعيل الذي رجاه أن يعتذر للسلطان ويقبل يده حتى يعيد إليه مناصب القضاء فقال: (والله لو قبل يدي ما قبلت، يا قوم أنتم في واد ونحن في واد الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به ).


هل تعلم أخي أن احتلال أفغانستان هو بسبب فوضى السباق على الحكم بين الفرقاء هناك ، وما يحاك بالسودان الآن هو نفس السيناريوا ، وما حدث في الصومال من قريب ويحدث إلى اليوم ، وهكذا يراد لنا


هل تعلم أخي أن الفوضوي لا يؤمن بالنظام وينظر إليه على أنه تضييق يؤرقه ويقض مضجعه ويقيد حركته ، وفي كثير من الأحيان يتم استغلاله من أجل خدمة مشاريع الأعداء كما يحدث الآن في العراق ومن قبل في فلسطين ..


بصبرنا على الظالمين وتغييرنا السلمي يرفع الله لنا الدرجات ، ويستدرجهم حتى يقعوا وإذا وقعوا لن يفلتوا من العقاب ولن ينسى الناس لهم سيئاتهم .


وإن كانوا يؤسسون للفوضى بفسادهم وينشرون مرضها بين الناس ، فسننقض أساسهم ونقوض بنيانهم ونقتلع جراثيمهم


فنكشف للناس عن فسادهم بكل ما أوتينا من قوة ، ثم نصلح قدر المستطاع ما أفسدوه .


هل تعلم أخي الكريم أننا نتعبد إلى الله بمحاربة الفوضى والحرص على النظام والوحدة ونبغض في الله كل فوضوي لأن عبادات الإسلام تأمرنا بذلك .


فالصلاة : لها أركانها ولها شروطها التي لا تصلح إلا بها ، فمن أخل بركن أو ترك شرطا عن عمد فقد بطلت صلاته ، وأمرنا بسد الخلل ، وتسوية الصفوف في الصلاة ، وعدم التقدم على الإمام أو التأخر عنه ، وحثنا على الجمع والجماعات وحذرنا من التخلف عنها ، وأمرنا بإدراك التكبيرة الأولى خلف الإمام.....


والوضوء : عبادة لا تصح الصلاة إلا به ، له فرائض وشروط صحة ، أمرنا بالحرص عليه والتمسك به ، والمحافظة عليه فهو يكفر السيئات ويرفع الدرجات ...


والصيام : يمسك المسلم عن الطعام والشراب والشهوة من الفجر حتى أذان المغرب فيمسك مع إخوانه في وقت واحد ويفطر في وقت واحد ، بل من المستحب حتى يعم النظام وتسود الوحدة بين المسلمين أن يؤخر الصائم السحور ويعجل الفطر، وأن يعيش في يومه محبا لإخوانه الذين صاموا معه فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل وشعاره في يومه وليلته اللهم إني صائم ...


والحج : شعاره واحد وزيه واحد ووجهته واحدة وأفعاله واحدة ...


والذكر : فبعض الأذكار لها أوقات محدودة وألفاظ معلومة كأذكار الركوع والسجود وبعد الصلوات وقبلها والصباح والمساء ، والدخول والخروج إلى المنزل والمسجد والخلاء ، ولبس الثوب ....وهكذا كل العبادات


إذا لا فوضى عندنا في عبادات الإسلام وكأنها تبعث إلينا برسائل متعددة الواحدة تلو الأخرى : أن النظام والوحدة من أولويات الإسلام ، وثابت من ثوابته.


يتعبدون لله بالنظام والوحدة في دار الأرقم بن أبي الأرقم وديار مكة


بعد بعثة النبي ونزول الوحي عليه ودخول الناس في دين الله ، كان لابد من المحافظة على هذه المجموعة التي ستفتح البلاد في المستقبل ، وتربيتها تربية خاصة ، وهذا ما رأيناه أنهم تعبدوا في بداية أمرهم لله عز وجل مع النبي صلى الله عليه وسلم بالنظام في إقامة شعائر الدين ، بعيدا عن الفوضى والاستعجال


قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين.


قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم.


فبينا سعد بن أبى وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم.


فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم هريق في الإسلام وروى الأموي في مغازيه من طريق الوقاصى عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه.


فذكر القصة بطولها، وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله. السيرة النبوية لابن كثير


قال ابن إسحاق: ودخل الناس أرسالا الرجال والنساء في دين الله، حتى فشا الإسلام بمكة وتحدث به.


روى الحافظ أبو الحسن سليمان بن خيثمة الأطرابلسي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا ثمانية رجلا ألح أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنا قليل. سبل الهدى والرشاد


علمهم النبي صلى الله عليه وسلم الوحدة والألفة ورص الصفوف في دار الأرقم بن أبي الأرقم قبل الانطلاق بالدعوة والجهر بها ليؤسس في قلوبهم أن ديننا هو دين النظام ولا مجال فيه للفوضى التي لا تبقي ولا تذر


جاء في السيرة النبوية للصلابي :أصبحت دار الأرقم السرية مركزا جديد للدعوة ، يتجمع فيها المسلمون ، ويتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جديد من الوحي ، ويستمعون له عليه الصلاة والسلام وهو يذكرهم بالله ، ويتلوا عليهم القرآن ، ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم على عينه كما تربي هو على عين الله عز وجل ، وأصبح هذا الجمع هو قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم .التربية القيادية نقلا عن السيرة النبوية للصلابي


هذه التربية في دور مكة وعلى رأسها دار الأرقم ، وفي شعابها قبل الجهر بالدعوة ،على النظام ، جعلت الصحابة بعد الجهر بالدعوة ، يستعذبون العذاب في سبيل الله ، ويصبرون على الأذى والاضطهاد ، لأنهم يعلمون أنها مرحلة لها ما بعدها




قال ابن إسحق: وكان ممن دخل منهم بجوار فيما سمى لنا عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد في جوار خاله أبي طالب، فإن أمه برة بنت عبد المطلب.


فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوى ورواحى في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي ! فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.


قال: لم يا بن أخي ؟ لعله آذاك أحد من قومي ؟ قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عزوجل، ولا أريد أن أستجير بغيره.


قال: فانطلق إلى المسجد فاردد على جواري علانية كما أجرتك علانية.


قال: فانطلقا، فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يرد على جواري.


قال: صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.


ثم انصرف عثمان رضي الله عنه، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد: * ألا كل شئ ما خلا الله باطل * فقال عثمان: صدقت.


فقال لبيد: * وكل نعيم لا محالة زائل * فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.


فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم ؟ !


فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله.


فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة.


قال: يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله ! وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس.


فقال له الوليد: هلم يا بن أخي إلى جوارك فعد.


قال: لا. ) السيرة النبوية لابن كثير


هذا موقف من عدة مواقف ، فهكذا كان أبو بكر وبلال وسمية وياسر وخباب ...وغيرهم يستعذبون العذاب بسبب تربيتهم الحسنة في الشعب وفي دار الأرقم ، على النظام والوحدة وعدم الاستعجال على قطف الثمار


وما أحوجنا اليوم إلى هذه التربية الحسنة ، التي تصوغ الرجال في قوالب الثبات أمام الشدائد والمحن بعيدا عن التهور والانفلات والاستعجال والفوضى ، فلنربي أبناءنا على الشدائد عند نزولها ، ونصبرهم عليها ، حتى يكونوا عونا لدينهم ولدعوتهم ولأمتهم في الرخاء


ولقد نادى الإمام البنا عليه رحمة الله على إخوانه في رسالة المؤتمر الخامس قائلا : أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم ، اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع ، إن طريقكم هذا مرسومة خطواته ، موضوعة حدوده ، ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول ، أجل قد تكون طريقا طويلة ولكن ليس هناك غيرها ، إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب ، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات ومن صبر معي حتى تنموا البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة . الرسائل


وبهذه الكلمات النيرات رسم الرجل الطريق التي اقتبسها من النبي صلى الله عليه وسلم وأبعد عنها العقبات وأزال عنها الغبار ، فأصبحت واضحة لأتباعه ومن يسير في قافلته من بعده ، أن فوضى الاستعجال لا مكان لها عندنا


جرعات المر والصبر عليها أولى من شهد الفوضى


من باب المحافظة على النسيج العام لقلة العدد ولضعف العدة ، ولأن الدولة ليست مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولتربية الصف المسلم على السمع والطاعة للقيادة ، والانقياد التام والكامل لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فبالرغم من أن قريشا حملت السلاح لأنها تملكه وتملك القوة البشرية وقامت بمعركة من جانب واحد ، لم يحمل النبي صلى الله عليه وسلم السلاح ، ولم يواجههم مواجهة حربية ، وإنما واجههم بالحكمة والموعظة الحسنة ، وعرض عقيدته عرضا هادئا وناقش عقيدتهم وكشف عن زيفها بمنطق العقل والحكمة ذكر البغوي في تفسيره : ...... عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال ...فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعتُه قط: يا أهل الجباجب هل لكم في مُذَمَّمٍ والصُّباة قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عدو الله، هذا أزبّ العقبة، اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغنّ لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم.


فقال العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدًا على أهل منًى بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لم نُؤْمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم ). رواه أحمد


نعم لم يؤمر بقتالهم في هذا الوقت حتى يحقق السر الرباني في أصحابه رضوان الله عليهم


ومن أسرار النهي عن القتال في العهد المكي هو قلة الخبرة ، والاحتكاك المباشر ، وانعدام التدريب على المواجهة ، وما زال الناس في حاجة إلى تربية إيمانية ، فلما ثاب الناس وكثر عددهم ، وأصبحت لهم دولة وقيادة ، ووحدوا صفوفهم وقضوا على الفوضى الفردية بينهم ، نزل القرآن ليحثهم على القتال ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) النساء


عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة"، فقرأ حتى بلغ:"إلى أجل قريب"، قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة، تسرَّعوا إلى القتال، فقالوا لنبي الله صلى الله عليه وسلم: ذَرْنا نتَّخذ مَعَاول فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: لم أؤمر بذلك. فلما كانت الهجرة، وأُمر بالقتال، كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى:( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ) تفسير الطبري


يقول صاحب الظلال وكان هذا الكف لحكمة قدرها الله . . نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى .


وأول ما نراه من أسباب هذا الكف ، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالاً للأمر ، وخضوعا للقيادة ، وانتظاراً للإذن . وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة ، يستجيبون لأول ناعق ، ولا يصبرون على الضيم . . وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية ، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر ، وتطاع فيما تقدر وتدبر ، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع . . ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته ، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته ، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة؛ وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي ، والحماسة والتدبر ، والحمية والطاعة . . في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم . . في ظلال القرآن


يقول الدكتور الصلابي : وربما كان ذلك أيضا اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت ، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين ، وإنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد ، ومعني الإذن بالقتال في مثل هذه البيئة أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ، ثم يقال : هذا هو الإسلام !!!ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في المواسم ، إن محمدا يفرق بين الوالد وولده فوق تفريقه لقومه وعشيرته ، فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي ؟ السيرة النبوية للصلابي


إن الحماسة الفائرة ضررها أكثر من نفعها ولذلك جاء النهي عن القتال في العهد المكي حتى لا يحدث مع القيادة كما حدث من بني إسرائيل مع قيادتهم فحذر منها الله عز وجل في سورة البقرة قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) ) البقرة


يقول سيد قطب رحمه الله : ....أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها . فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة . . فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل - من ذوي الرأي والمكانة فيهم - إلى نبيهم في ذلك الزمان ، يطلبون إليه أن يختار لهم ملكاً يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم ، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون . فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال ، وقال لهم( هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا! ) استنكروا عليه هذا القول ، وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له : ( وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ ) . . ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها ، وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة؛ وكما يقول السياق بالإجمال : ( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم ) . . ومع أن لبني إسرائيل طابعاً خاصاً في النكول عن العهد ، والنكوص عن الوعد ، والتفرق في منتصف الطريق . . إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال ، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغاً عالياً من التدريب . . وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل . . فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل .


ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول . . فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم . ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها . وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة ، ووقوع علامة الله باختياره لهم ، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة . . . ! ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى . وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم : ( فلما فصل طالوت بالجنود قال : إن الله مبتليكم بنهر : فمن شرب منه فليس مني . ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم ) . . وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية . فأمام الهول الحي ، أمام كثرة الأعداء وقوتهم ، تهاوت العزائم وزلزلت القلوب : ( فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) . . وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة..... اعتصمت بالله ووثقت ، وقالت : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) . . وهذه هي التي رجحت الكفة ، وتلقت النصر ، واستحقت العز والتمكين .. في ظلال القرآن


حال العرب قبل الهجرة


كان حال العرب قبل الهجرة أنهم يعيشون في فوضي عارمة أكلت الأخضر واليابس ، وغابة يأكل فيها القوي الضعيف ، لا مكان للأخوة ، ولا مجال للحديث عن الحب والوحدة ، فاليهود يشعلون نار العداوة بين الأخوة أصحاب الرحم الواحد ، ويقفوا من بعيد يرقبوا المعركة كيف ستنتهي ؟ وكلما هدأت أشعلوها من جديد وأسكبوا الزيت على النار ، فأضاعوا اقتصادهم ، وخربوا ديارهم ، وقتلوا أشرافهم ، وانتهكوا أعراضهم ، ومن أراد أن يعرف قدر الهجرة فليقرأ الواقع المر قبلها وصدق الإمام البخاري عندما سماها منقبة


نعم إنه لا يقدر الإسلام حق قدره في إقراره لنظام الحكم وقضائه على الفوضى إلا من عرف الجاهلية قبله


يقول الدكتور أحمد الدسوقي : فالعرب في جاهليتهم لم يعرفوا الدولة المستقرة إلا في اليمن وعلى أطراف العراق حيث دولة المناهرة وفي بادية الشام حيث دولة الغساسنة وكان أمراء هذه البلاد تابعين للفرس والروم أما ما عدا ذلك من


جهات شبه الجزيرة العربية فكان بعيداً عن التبعية السياسية للدولتين الكبيرتين وعاش العرب نظامًا قبلياً وكانت القبيلة وحدة سياسية مستقلة بذاتها وكان الصراع بين القبائل لا يتوقف والحروب لا تهدأ لأتفه الأسباب – مذكرات في السيرة التحليلية في ضوء الكتاب و السنة ص (14)


إن من مساوئ الجاهلية أن العلاقات كانت تقوم بين الناس على أساس ضيق وقد اتفق كل الناس على العصبية القومية في ذلك الزمن ولذلك كانت الحروب والخلافات الدائمة هي الأصل في الغالب على أبناء ذلك الزمن .


وخاصة عند العرب بدافع حماية القوم والاعتداء على الأقوام الآخرين


فالإغارة على الآخرين وسلب أموالهم لا تعتبر إجراما بل تعتبر نوعا من البطولة ومفخرة قومية يسجلها الشاعر في شعره والخطيب في خطبته


يقول عمير بن شيم التغلبى المعروف بالقطامى


ومن ربط الجـِحـاش فإن فــينا * قـَناً سُلـْباً وأفراسا حسانا


وكن إذا أغرن على جَــــنابٍ * وأعوزهن نهب حيث كـان


أغرن من الضِّــباب على حِلالٍ * وضبَّة إنه من حان حانــــا


وأحيانا على بكر أخـينا * إذا لم نجد إلا أخانـــــــــا


ديوان الحماسة لأبى تمام ج1ص203


وكانت الحروب تقام لأتفه الأسباب فهم لا يبالون بإزهاق الأرواح في سبيل الدفاع عن المثل الاجتماعية التي تعارفوا عليها وإن كانت لا تستحق التقدير .


فمثلا يوم البسوس


وقد قامت الحرب فيه بين بكر وتغلب بسب ناقة للجرمى وهو جارللبسوس بنت منقذ خالة جساس بن مرة وقد كان كليب سيد تغلب قد حمى لإبله مكانا خاصا به فرأى فيه هذه الناقة فرماها فجزع الجرمي وجزعت البسوس فلما رأى ذلك جساس بن مرة تحين الفرصة لقتل كليب فقتله فقامت الحروب الطاحنة بين القبيلتين لمدة أربعين سنة . الكامل فىالتاريخ لابن الاثير ج1ص312


يوم داحس والغبراء


وكان سببه سباقا أقيم بين داحس وهو فرس لقيس بن زهير والغبراء وهي لحذيفة بن بدر فأوعز هذا إلى رجل ليقف في الوادي فإن رأى داحسا قد سبق يرده وقد فعل ذلك فلطم الفرس حتى أوقعها في الماء فسبقت الغبراء وحدث بعد ذلك القتل والأخذ بالثأر وقامت الحروب بين قبيلتي عبس وذبيان . الكامل في التاريخ لابن الأثير ج1ص343


حرب سمير بين الأوس والخزرج


وسببها أن رجلا غطفانيا كان معه فرس فقال ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب فسمي الأوس رجالا وسمي الخزرج رجالا فدفعها إلى مالك بن العجلان الخزرجى فافتخر بذلك حليفه كعب بن العجلان الذبياني وقال ألم أقل لكم إن حليفي مالكا أفضلكم ؟ فغضب لذلك رجل من الأوس يقال له سمير فترصد لكعب فقتله فقامت الحرب بين الحيين وكان الظفر فيها للاوس ثم استمرت الحروب بينهما مائة سنة حتى كان حرب حاطب وهى من اشهر أيامهم وسببها أن رجلا من بنى ثعلبة نزل على حاطب بن قيس الأوسى فرآه يزيد بن الحارث الخزرجى في السوق فقال لرجل يهودي لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي ( يعنى أن يضربه بقدمه من الخلف وذلك إهانة ) فأخذ اليهودي الرداء وكسع الثعلبي فنادى الثعلبي يا لحاطب كسع ضيفك وفضح واخبر حاطب بذلك فجاءه فسأله من كسعك ؟ فأشار إلى اليهودي فقتله حاطب فجاء يزيد بن الحارث الخزرجى فأسرع ليقتل حاطبا فقتله وقتل رجلا آخر من قومه فثارت الحرب بين الأوس والخزرج وكان الظفر فيها للخزرج ثم كان آخر أيامهم يوم بعاث "


و سبب هذه الفوضى في المجتمع عدم وجود قوة وسلطان لردع المعتدى وحمله على الحق


جاء في الأحكام السلطانية :


إن وجود رئيس للمجتمع ضروري لبقائه ونظامه لأنه يستطيع أن يحمل الناس على طاعة النظام وعدم الخروج عليه فيجنبهم حياة الفوضى والاضطراب والهرج والمرج ولهذا لم يوجد مجتمع إلا وجد فيه رئيس على أي نحو كان يطيعه الناس عن رضىً واختيار أو قهر واضطرار لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من المظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين وهمجاً مضاعين . الأحكام السلطانية )للما وردي صفحة (3)


وقال بن تيمية : ولأن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رئيس ٍ (السياسة الشرعية) للإمام بن تيمية ص 138 نقلاً عن أصول الدعوة لعبد الكريم زيدان (203)


يقول الإمام البنا عليه رحمة الله :


يفرض الإسلام الحنيف الحكومة قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس فهو لا يقر الفوضى ولا يدع الجماعة المسلمة بغير إمام ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه : ( إذا نزلت ببلد ٍ وليس فيه سلطان فارحل عنه) كما قال لبعض أصحابه كذلك: ( وإذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم رجلا ) الرسائل رسالة الحكم ص (211) ولذلك قال بن المبارك :


إن الجماعة حبل الله فاعتصموا.... بعروته الوثقى لمن دانا


كم يدفع الله بالسلطان مظلمة.... في ديننا رحمة منه ودينانا


لولا الخليفة لم تأمن لنا سبل.....وكان أضعفنا نهبا لأقوانا


ولذلك إقرار النظام في المجتمع مسئولية الرئيس والمجتمع على السواء


مصعب يقاوم الفوضى ويجمع ولا يفرق


بمجرد أن وصل إلى المدينة المنورة مع من بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الصغرى رفع شعارا مباركا أثناء دعوته وحركته واحتكاكه بجمهوره ورواده نعم للوحدة ولا للفرقة نعم للنظام ولا للفوضى ما جئت للتفريق أو تجلس فتسمع جاء في تفسير البغوي قال: فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويُفقهَهم في الدين، وكان مُصعب يُسمى بالمدينة المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطًا، من حوائط بني ظفر، فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حُضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءَنا فازجرهما، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه، وكان سعد بن معاذ وأُسَيْد بن حضير سَيِّدَيْ قومِهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلسْ أكلمه قال: فوقف عليهما متشتّمًا فقال: ما جاء بكم إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره، قال: أنصفتَ ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا والله لَعَرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له : تغتسلُ وتُطهرُ ثوبَيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم قام وركع ركعتين ثم قال لهما: إنَّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمّتُ الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا وقد نهيتُهما فقالا فافعل ما أحببت، وقد حُدثتُ أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زُرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد مغضبًا مبادرًا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما مَتشتمًا ثم قال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد قومه، إن يتبعك لم يخالفك منهم أحد، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرًا ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عَزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن قال : فعرفنا والله في وجهه الإسلام: قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أُسَيْد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبةً قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجلُ ولا امرأةٌ إلا مسلم أو مسلمة، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر، وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدرٌ وأُحد والخندق.


هذا الأسلوب ما سمعوه من قبل وهذا اللين ما عرفوه ولا وصلوا إليه ، لغتهم السيف وهو عندهم أفصح من كلام مصعب ، قوما إن كانت لكما بأنفسكما حاجة ، لا يؤمنون بالوحدة وكفروا بالحب ، وما عهدوا هذه اللغة من قبل ، ولذلك سحر مصعب بأسلوبه الناس وحولهم إلى أسرى للنظام والوحدة والحب ، وحارب بهذا الأسلوب الفوضى ، ولذلك حرص على الجمعة ليكثر من هذا السلوك الطيب فهو أول من جمع بالمدينة كما جاء في بعض الروايات


إنها الحنكة والكياسة وفن التجميع فلا مجال عنده لتقطيب الجبين ولا وقت للفوضى وتضييع الأوقات ، وليت القادة والدعاة على وجه الخصوص يتعلموا من مصعب بن عمير هذا الفن ، الذي يوحد ولا يفرق ويجمع ولا يشتت ، ويؤلف ولا يبغض


النبي يلجم الفوضى ويحوطها بسور وسوار


كان العرب في المدينة قبل الهجرة يعيشون في فوضى عارمة مطلقة لا حدود لها أكلت الأخضر واليابس ولذلك بمجرد أن تعرفوا على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل بيعة العقبة الصغرى قالوا هذا والله خير مما جئتم له ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : ممن أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج . قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم ، قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى . قال : فجلسوا معه ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، وكان مما صنع الله لهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانت الأوس والخزرج أهل شرك وأصحاب أوثان ، فكانوا إذا كان بينهم شيء ، قالت اليهود : إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض : يا قوم اعلموا والله أن هذا النبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه ، فأجابوه لما دعاهم إلى الله عز وجل ، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة ما بينهم والشر ما بينهم ، وعسى الله عز وجل أن يجمعهم الله بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك .


ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا!!! وكأنهم عثروا على كنز كبير ، بعد فقر وهوان ، وطعام كثير بعد جوع وضجيع ، وماء عذب نقي وفير بعد عطش ، فلقد أكلت العداوة والشرور كل شيء ولم تبقي شيء .


وهذه الفوضى التي كانت موجودة في المدينة كان المستفيد الوحيد منها هم اليهود فيشعلون الحرب ويقفوا لينظروا ماذا فعلت ؟ حتى إذا ما أكلت الأخضر واليابس انقضوا هم على اقتصاد المدينة ، لأن الجو أصبح خاليا أمامهم فيرتعوا كيفما شاءوا ولقد أرادوا مرة أن يشعلوها ولكن بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليها على يد شأس بن قيس اليهودي ولكن الله سلم


عن زيد بن أسلم قال: مرّ شأس بن قيس وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية ، عظيمَ الكفر، شديد الضِّغن على المسلمين ، شديدَ الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه. فغاظه ما رأى من جَماعتهم وألفتهم وصَلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع مَلأ بني قَيْلة بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم، إذا اجتمع ملأهم بها، من قرار! فأمر فَتى شابًّا من يهودَ وكان معه، فقال: اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، وذَكّرهم يَوْم بعاث وما كان قبله ، وأنشدْهم بعض ما كانوا تقاوَلوا فيه من الأشعار وكان يوم بُعَاث يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفرُ فيه للأوس على الخزرج ففعل. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجُلان من الحيَّين على الرُّكَب: أوسُ بن قَيْظي، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس وجبّار بن صخر، أحد بني سَلمة من الخزرج. فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رَدَدْناها الآن جَذَعَةً! وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ!! موعدُكم الظاهرة والظاهرةُ: الحَرَّة فخرجوا إليها. وتحاوز الناس. فانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال:"يا معشرَ المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم بعد إذْ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا؟ " فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيدٌ من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكَوْا، وعانقَ الرجال من الأوس والخزرج بعضُهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيدَ عدوِّ الله شَأس بن قيس وما صنع . فأنزل الله في شأس بن قيس وما صنع:"قل يا أهل الكتاب لم تكفرُون بآيات الله والله شهيدٌ على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا" الآية. وأنزل الله عز وجل في أوس بن قَيْظيّ وجبّار بن صخر ومَنْ كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس بن قيس من أمر الجاهلية: "يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردُّوكم بعد إيمانكم كافرين" إلى قوله:"أولئك لهم عذابٌ عظيم". تفسير الطبري


.....


لقد أصبحت المدينة تعيش بعد الهجرة عهد الجماعة بعد الفرد والقوة بعد الضعف والوحدة بعد التفرق والحب بعد البغض ووضوح الرؤيا بعد غيابها ولا مكان فيها لبث روح الفوضى من قبل اليهود بأي حال من الأحوال فكلما أشعلوا وأوقدوا نار الفوضى أطفأها النبي صلى الله عليه وسلم ، فهل يفيق المسلمون اليوم من غفلتهم ويوحدوا صفهم ضد عدوهم وينتبهوا ويستيقظوا لمؤامراتهم


بنى المسجد لتنظيم الحياة التعبدية


كان حال الصحابة رضوان الله عليهم قبل الهجرة في المدينة يعيشون في حالة من العبادة الفردية ، ولم يصلوا بعد إلى مفهوم العبادة الجماعية ، أو العبادة في جماعة ، أما في مكة فلم يتمتعوا بالصلاة في جماعة إلا قليلا ، وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم نظم الحياة التعبدية في رحاب المسجد ، فبنى المسجد ليستقبل فيه الوفود وليعقد فيه الألوية، وليتعاهد الصحابة بالتربية ، وليصحح المفاهيم الخاطئة...... وليجمع الصحابة خلف إمام واحد ، وأمر الصحابة بالمحافظة على الجماعات والجمع حتى تعم الوحدة والنظام ويقضى على الفوضى ، وحذرهم من التأخير والتقاعس عنها ، وحضهم على الصف الأول والآذان ، وأمرهم برص صفوفهم وسد الفرج ، وأمرهم أن لا يسبقوا الإمام روى البخاري بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّمَا جُعِلَ الإمام لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ ) رواه البخاري وفي رواية أخرى يحذر من عدم النظام في الصلاة عن هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ أَوْ لَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمام أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ) رواه البخاري


وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإمام أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ ) رواه البخاري


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عليهم بيوتهم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ ) رواه البخاري


عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ ثَلَاثَةً وَقَدْ سَبَقُوهُ فَقَالَ رابع أربعة وَمَا رابع أربعة بِبَعِيدٍ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إِلَى الْجُمُعَاتِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ ثُمَّ قَالَ رابع أربعة وَمَا رابع أربعة بِبَعِيدٍ ) رواه بن ماجه


من أجل كل ذلك بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ، وأسسه على تقوى من الله رص فيه القلوب قبل الصفوف ، وبنى فيه القلوب قبل الأجساد ، ووحد فيه الكلمة ، ورفع فيه روح الأخوة ، وغرس شجرة الإيثار ، وبنى صرح المساواة ، وأعلى فيه من قيمة الفرد في وسط الجماعة ، وقلل منه بعيدا عنها ، ورفع فيه من رصيد الإيمان والتقوى ، يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله : إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى ، وشتى الأشياء ، وشتى الاعتبارات . . إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية ، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار . . وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه إلى القصد ، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه . فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد ، لا تعرف لها قصداً مستقيماً ولا غاية مطردة ، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة ، كما يتجمع الوجود كله ، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات . في ظلال القرآن


لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم البناء في صورة متواضعة ، والحق به مكانا لأهل الصفة حتى يأوي إليها المساكين ممن لا سكن لهم قال أبو هريرة رضي الله عنه : وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد .




عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا قَالُوا لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فَقَالَ أَنَسٌ فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ خَرِبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خير الآخرة فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ والمهاجرة ) رواه البخاري


وهذا إن دل فإنما يدل على اهتمام النبي صلى الله بالنظام وإيمانه به كثابت من ثوابت البناء وقاعدة من قواعده في بناء دولة الإسلام الأولى ، ومحاربتة للفوضى ، فلم يترك النبي ابن السبيل يدور في الطرقات بلا مأوى فجعل له مكانا خاصا به يأوي إليه وهذا من باب الحفاظ على النظام في المجتمع


يقول الدكتور البوطي : إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي ، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ ، والتماسك ، بالتزام الإسلام وعقيدته وآدابه ، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه . فقه السيرة


ونحن اليوم لو عدنا من جديد إلى المساجد ، فنصلي الصلاة في جماعة ولا تفوتنا تكبيرة الإحرام خلف الإمام الخمس صلوات ، ثم أخذنا بأيدي شبابنا وأشبالنا إلى روضة المسجد وحلقة القرآن فيه ، يحضرون مع أستاذهم ليتعلموا ولينهلوا من معين القرآن الذي لا ينضب ، ثم حضرنا دروس العلم ، ثم فعلنا أنشطة المسجد من جديد مثل الحلقة المسجدية ، والمقرأة ، واللقاء العام ، وصندوق الحي ولجنة الزكاة وجمع التبرعات ، ولجنة الزيارات لأهل الحي من كبار السن والمرضى والمحتاجين ، ولجنة النظافة والرعاية الصحية التي تهتم بنظافة شوارع الحي وتشرف عليه ، إقامة لقاء أسبوعي مع جماعات المسجد في البيوت ويحرص على حضورها إمام المسجد، تفعيل لجنة المصالحات المسجدية للصلح بين أهل الحي ، ...... لو فعلنا ذلك لقضينا على جانب كبير من الفوضى في حياتنا ولخففت عنا كثيرا من الحديث في هذا الجانب ، فهيا هيا لنتعلم من نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولنعود إلى مساجدنا من جديد لنحيي دورها الذي قلص ومن شأنها الذي غاب ، ومن مكانتها التي افتقدت ، إن أردنا بالفعل القضاء على الفوضى والسعادة لأنفسنا ولأمتنا


أقام السوق لتنظيم الحياة الاقتصادية


كان اليهود يشعلون نار العداوة والحروب بين العرب في المدينة من أجل السيطرة على أموالهم وخيراتهم ، ولقد سيطر اليهود على السوق فكانوا يبيعون الأماكن ويحتكرونها أو يؤجرونها ، ويغشون ويطففون ويرابون ،ويرتشون ويأكلون السحت يقول تعالى : ( سماعون لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) ) المائدة


ويبخلون بما عندهم ( الذين يبخلون وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) النساء


وما من وسيلة خسيسة في التجارة إلا اتبعوها بل قل إن شئت حولوا السوق إلى غابة من الفوضى التجارية يقول تعالى : ( لعن الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)) المائدة


فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، أراد أن يقضي على هذه الفوضى التجارية ، فضرب قبة ليقوم الناس حولها بالبيع والشراء وقال هذا سوقكم ، فغاظ هذا العمل اليهود لأن زمام الاقتصاد سيتحول منهم إلى غيرهم وخصوصا بعد مجيء أهل مكة أهل الخبرة والتجارة ، فقام كعب بن الشرف وقوضها وقطع أطنابها ، فقال صلى الله عليه وسلم ( والله لأضربن له سوقا هو أغيظ له من هذا ....وفي رواية ( لا جرم لأنقلنها إلى موضع هو أغيظ له من هذا ) عن أبي أسيد رضي الله تعالى عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي، يا رسول الله، إني قد رأيت موضعا للسوق، أولا تنظر إليه ؟ قال: بلى، فقام معه حين جاء موضع السوق فلما جاءه أعجبه، وركضه، برجله، وقال: نعم سوقكم، فلا ينقض ولا يضربن عليكم خراج ) رواه الطبراني


ورواه ابن ماجة بلفظ: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق النبيط فنظر إليه، وقال: ( ليس لكم هذا بسوق، ثم ذهب إلى سوق، فقال: هذا ليس لكم بسوق، ثم رجع إلى هذا السوق فطاف فيه، ثم قال: هذا سوقكم، فلا ينتقض ولا يضرب عليه خراج)


وقامت السوق منظمة قوية ، فكان للخيل مكان وللإبل مكان ، وللغنم سواها ، ولكل عرض من العروض مكانه الخاص به ، كالسمن والزبيب والتمر والقمح ، يقول الدكتور أبو يابس : ويصف بعضهم حسن نظام هذا السوق بقوله : وكان أحدهم ينزل بسوق المدينة فيضع رحله ثم يطوف بالسوق ورحله بعينه يبعده ولا يغيب عنه شيء ) الهجرة مرحلة من مراحل التغيير الإنساني


لم يكتفي النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشكل من النظام ، فقد عني بشكل آخر أهم من هذا بكثير كان من أولويات محاربته للفوضى التجارية ، فكان يتعاهد السوق بين الحين ليقوم بالترهيب من فوضى التجارة ومرغبا في النظام


أمرهم بالسماحة في البيع والشراء عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( رحم الله رجلا سمحا إذا باع ، وإذا اشترى ،وإذا اقتضى ) رواه البخاري


* وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى جماعة من التجار، فقال: يا معشر التجار، فاستجابوا له وأمدوا أعناقهم، فقال: " إن الله تعالى باعثكم يوم القيامة، فجارا إلا من صدق وبر وأدى الأمانة "


* وعن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلينا وكنا تجارا، وكان يقول: ( يا معشر التجار، إياكم والكذب )


* وروى ابن ماجه والترمذي، وقال حسن صحيح عن رفاعة بن رافع رضي الله تعالى


عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فإذا الناس يتبايعون، فقال: ( يا معشر التجار، فاستجابوا ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: التجار يبعثون يوم القيامة، فجارا إلا من اتقى الله عز وجل وبر وصدق) .


وروى الإمام أحمد والأربعة عن قيس بن أبي غرة البجلي رضي الله عنه قال: كنا نبتاع بالمدينة ، وكنا نسمى السماسرة، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن، وفي لفظ: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع، فقال: " يا معشر التجار " فسمانا بأحسن أسمائنا: ( إن البيع يحضره الحق والكذب، وفي لفظ: إن الشيطان والإثم يحضران السوق، وفي لفظ: إن هذه السوق يخالطها اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة ).


وروى الترمذي مرفوعا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: ( إنكم قد وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم ) ورواه عنه بسند صحيح موقوفا


لم يكتفي بالترغيب والترهيب في محاربة الفوضى التجارية بل كان يقوم بعملية تفتيش مفاجئة للتجار ، يقوم بذلك بنفسه فيشكر المحسن ويجزيه خيرا ، ويقوم الفوضوي ويرهبه وينهاه


* روى الطبراني برجال ثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق فرأى طعاما مصبرا، فأدخل يده فيه، فأخرج طعاما رطبا قد أصابته السماء، فقال لصاحبه: ما حملك على هذا ؟ قال: والذي بعثك بالحق، أنه لطعام واحد، قال: أفلا عزلت الرطب على حدته، واليابس على حدته، فيبتاعون ما يعرفون، من غشنا فليس منا) .


وروى الطبراني عن أبي موسى رضي الله عنه قال : انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق البقيع، فأدخل يده في غرارة، فأخرج طعاما مختلفا أو قال مغشوشا، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم ليس منا من غشنا).


وروى ابن ماجه عن أبي الحمراء رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجنبات رجل عنده طعام في وعاء فأدخل يده فيه، وقال: لعلك غششت، من غشنا فليس منا


بل يقرن في حديث آخر بين من ينشر الفوضى في المجتمع ويحمل السلاح في وجوه إخوانه ومن يغشهم فهما في الإثم سواء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ غشنا فَلَيْسَ مِنَّا )


وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في السوق على صبرة طعام، فسأله كيف تبتاع ؟ فأخبره، فأوحي إليه أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول، فقال: " ما هذا يا صاحب الطعام " ؟ فقال: يا رسول الله، أصابته السماء، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا ".


وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام قد حسنه صاحبه، فأدخل يده فيه، فإذا هو طعام ردئ، فقال: " بع هذا على حدة وهذا على حدة، فمن غشنا فليس منا ".


ونهى عن الاحتكار في السلعة وحبسها حتى تقل في السوق فيغلوا سعرها أو احتكار الأماكن وقال ( هذا سوقكم لا تنحجروا ) ولما رأى خيمة مضروبة لمحمد بن مسلمة يباع فيها تبر فغضب وأمر بإحراقها لما فيها من شبه احتكار الأماكن ، قال صلى الله عليه وسلم : ( بئس العبد المحتكر ، إن سمع برخص ساءه ، وإن سمع بغلاء فرح ) ونهى عن تلقي الركبان القادمين بالسلع لأن من يفعل ذلك يشتري السلعة بثمن ثم يبيعها بثمن مرتفع


ثم وقف بعد ذلك ليحارب الفوضى التجارية والاقتصادية من فوق منبره وليبعث برسائل متعددة للأحرار في كل مكان مرهبا مرة ومرغبا أخرى يقرأ القرآن ويخبر عن ربه الكريم الجواد الحنان المنان ، فمن رسائله المتكررة في حربه للفوضى الاقتصادية :


* محاربة الربا بكل أشكاله وألوانه لأنه يمص أموال الفقراء ويعمل على عدم تكافؤ الفرص بين شرائح المجتمع المختلفة ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) الحشر 7 يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الربا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ويقول تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الربا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الربا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )


روى البخاري بإسناده عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لَا قَالَ لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ ، قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ : وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ قَالَا نَعَمْ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الربا وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ فَارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ قَالَا ذَاكَ مَنْزِلُكَ قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي قَالَا إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوْ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ ) رواه البخاري


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الربا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ ) رواه البخاري


ولذلك ينبغي على من يتصدى للتجارة فيبيع ويشتري أن يكون عالما بها حتى لا يقع في فخ الربا دون أن يشعر بذلك فقد روي أن عمر رضي الله عنه كان يطوف بالسوق ويضرب بعض التجار بالدرة ، ويقول : لا بيع في سوقنا إلا من يفقه ، وإلا أكل الربا ، شاء أم أبى ) رواه الترمذي


* أن يكون المبيع طاهر العين ، منتفعا به ، مملوكا للتعاقد ، مقدورا على تسليمه شرعا وحسا ( لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ) ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) فقيل يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ؟ قال لا هو حرام ) رواه البخاري


* نهى عن البيع على البيع قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يبع الرجل على بيع أخيه) رواه البخاري عن أبي هريرة حتى لا تحدث فوضى وشحناء وبغضاء بين المسلمين فتوغر الصدور وتمحق بركة البيع


* النهي عن بيع المغصوب ، لأن السارق يشيع الفوضى وينشرها بسرقته بين الناس ويصنع جوا من عدم الاستقرار فحاصره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا عرف لا يشترى منه حتى تتحول سلعته إلى غلها على كاسدة


* ونهى عن كثرة الحلف في البيع ( إياكم وكثرة الحلف في البيع ، فإنه ينفق ، ثم يمحق ) رواه مسلم لأن المصارحة والمكاشفة والصدق في البيع من صفات التاجر الصدوق الذي يحشر مع النبيين يوم القيامة عن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) فقال له رجل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟قال : ( وإن كان قضيبا من أراك )


لم يجد ثغرة من ثغرات الفوضى في سوق المدينة إلا وقف في وجهها سادا لها وكلما أتيح له منبر تحدث حتى وضحت المعالم ورسمت الطرق وأصبح الاقتصاد الإسلامي يسبق غيره


ولو عاد الناس اليوم وخصوصا التجار إلى سوق المدينة الأول الذي أسسه حبيبهم صلى الله عليه وسلم على تقوى وصدق ، لاستراح الناس وأراحوا من فوضى تكاد أن تأكل كل شيء وتقضي على حياة الفقراء من الناس ومعدومي الدخل


آخى بين المهاجرين والأنصار لتنظيم الحياة الاجتماعية


قبل نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وقبل الهجرة إلى المدينة ، كانت الأخوة تعيش في دنيا من الفوضى، فالأخوة أخوة الشرف والحسب والمادة والعصبية ولذلك وضع النبي صلى الله عليه وسلم لبناتها وقواعدها مع بدأ الرسالة ، ثم رفع من قدرها وأعلى من شأنها بعد الهجرة ، وما حديث عثمان بن مظعون منا ببعيد الذي أبى إلا أن يشارك إخوانه في العذاب في سبيل الله ولم يرضى بالراحة لأن مادة الشعور والأخوة مشتعلة في صدره فكيف يستريح وإخوان له تكال لهم الضربات على أرض مكة وبين جبالها ؟ ومع بناء المسجد بعد الهجرة صحح للمفاهيم المغلوطة عنها


وروى البيهقي عن الحسن قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره ، وكان عثمان بن مظعون رجلا متنطعا وكان يحمل اللبنة فيجافي بها ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه ونظر إلى ثوبه، فإن أصابه شئ من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأنشد يقول: لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن الغبار حائدا فسمعها عمار بن ياسر ، فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها.


فمر بعثمان فقال: يابن سمية، ما أعرفني بمن تعرض، ومعه جريدة ، فقال: لتكفن أو لأعترضن بها وجهك.


فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب ثم قال: " إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي فإذا بلغ ذلك من المرء فقد أبلغ ".


ووضع يده بين عينيه.


فكف الناس عن عمار، ثم قالوا لعمار: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن. فقال: أنا أرضيه كما غضب.


فقال: يا رسول الله ما لي ولأصحابك ؟ قال: " مالك ولهم " ؟ قال: يريدون قتلي، يحملون لبنة لبنة ،ويحملون علي لبنتين لبنتين.


فأخذ بيده وطاف به في المسجد، وجعل يمسح وفرته بيديه من التراب ويقول: " يا ابن سمية، ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار "، ويقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. رواه البيهقي سبل الهدى والرشاد


إن المهاجرين الكرام تربوا في مكة المكرمة تربية صاغت منهم رجالا لم يعبئوا في المستقبل بالمادة ومشتقاتها والدنيا وزهرتها ...وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يورث الأنصار ما عند إخوانهم المهاجرين الذين تربوا في مكة بين المطرقة والسندان ، وأن يصنع بهذا التوريث لبنة من أقوى اللبنات في وجه الأعداء والمتحاملين ، وليقهر كل متآمر متربص خائن ، فآخى بين المهاجرين والأنصار


لقد كانت المدينة شعلة متقدة بين القبائل لم تهدأ إلا وتبدأ في الاشتعال من جديد ، فلم يذوقوا يوما طعم الحب والإخاء ، لأن السيف قتل هذه الكلمة ، فورثهم النبي صلى الله عليه وسلم الحب والتكامل والإخاء الحقي بالمؤاخاة بينهم وبين إخوانهم الذين هاجروا إليهم روى البخاري بإسناده عن إبراهيم بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ أَيْنَ سُوقُكُمْ فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَمَا انْقَلَبَ إِلَّا وَمَعَهُ فَضْلٌ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْيَمْ قَالَ تَزَوَّجْتُ قَالَ كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ شَكَّ إِبْرَاهِيمُ ) رواه البخاري


لقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأخوة على فوضى ( أنا ) التي لا تأتي إلا بشر ، وحول بها بيئة كانت من أخس البيئات إلى بيئة حسنة جميلة ، وحول السيف الذي كان مشرعا على الأعناق بالليل والنهار إلى رحمة للبشر وخير للوطن


ونحن لن نتقدم في مياديننا الدعوية والعلمية والعملية.... إلا إذا رفعنا شعار الحب والتقارب وحولناها إلى محاريب للحب والود


كتب الوثيقة لتنظيم الحياة السياسية


كانت المدينة تعيش في فوضى سياسية فالحروب بين القبائل قضت على كل معلم من معالم النظام ، ولم تبقى شيئا للوحدة وكان السر في بث روح الفوضى في المدينة هم اليهود فعمل النبي صلى الله عليه وسلم ، على تثبيت الأمن الداخلي مع غير المسلمين جاء ذلك بعد كتابة الوثيقة ليلعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنهم أمة واحدة من دون الناس


وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم


وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين


وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم .....إلخ


لقد وسع النبي صلى الله عليه وسلم من دائرة الأخوة وسط الحدود الضيقة ليرفع من شأنها وليطل عليها بنظرة أكبر فهم أمة ، والأمة دائرتها أشمل وأوسع من دائرة الأخوة لأن الأخوة لبنة من لبنات الأمة ، وبهذه الوثيقة هدأ النبي من فتن اليهود وأطفأ جزءا من نيران فوضاهم في بداية إقامة دولته في المدينة ، وسور حولها بسور النظام الذي جاء في دستور المدينة ، الذي جعل المرجعية فيه للمسلمين ، وحجم دور اليهود


هادن بعض القبائل المجاورة للمدينة


حارب النبي صلى الله عليه وسلم الفوضى خارج المدينة بأساليب متعددة وبسط سيطرة النظام على المنطقة كلها فهادن بعض القبائل المجاورة للمدينة مثل بني ضمرة في غزوة الأبواء بعد الهجرة فكتب وثيقة معهم جاء فيها : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم وأن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصرة أجابوه عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله ولهم النصر على من بر منهم واتقى ) الوثائق السياسية محمد حميد الله


وكتب معاهدة مع جهينة ( إنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم وإن لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلا في الدين الأهل ولأهل باديتهم من بر منهم واتقى ما لحاضرتهم )


وبهذه المهادنات كسبت دولة الإسلام في المدينة ولاء بعض القبائل المجاورة لها وحجمت دور الأعراب وأصبح المسلمون هم السادة بسيطرتهم على المنطقة والقضاء على أكبر قدر من الفوضى الدائرة حول المدينة المنورة


وأخيرا


بهذه المواقف المتعددة حاصر النبي صلى الله عليه وسلم الفوضى بكل أشكالها وألوانها ووحد الصف ، وبنى بها نفوسا قبل أن يبني دولة


ونحن إن أردنا أن تكون لنا السيادة والريادة فعلينا بمستلزمات السيادة والريادة التي يأتي في مقدمتها بث روح النظام والوحدة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع ...فنربي أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا عليها ولنحارب الفوضى بكل ما أوتينا من علم وثقافة .... فالنظام ثقافة أفراد وأسر ومجتمعات قبل أن يكون ثقافة دول


* فلا تكن أيها الحبيب سببا للفوضى في المكان الذي أنت فيه ، بيتا عملا شارعا ...


* المحافظة على المرافق العامة ، فلو أن كل فرد في مكانه حافظ عليه لقللنا من الفوضى


* أخي الحبيب : أدى عملك كما أمرك الله وتخيل أن رسول الله أمامك يبتسم لك مشجعا قائلا لك ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه )


* ابدأ بنفسك ، وأصلح شأن من حولك


* النظام يحتاج إلى صبر ونفس طويل فلا تستعجل قطف الثمار قبل أوانها


* حاول أن تنفذ الوصايا العشر ففيها الخير الكثير لك ولمجتمعك :


قم إلى الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف . اتل القرآن أو استمع أو اذكر الله ولا تصرف جزءا من وقتك في غير فائدة . اجتهد أن تتكلم العربية الفصحى فإن ذلك من شعائر الإسلام . لا تكثر الجدل في أي شأن من الشؤون فإن المراء لا يأتي بخير . لا تكثر الضحك فإن القلب الموصول بالله ساكن وقور . لا تمزح فإن الأمة المجاهدة لا تعرف إلا الجد لا ترفع صوتك أكثر مما يحتاج السامعون فإنه رعونة وإيذاء . تجنب غيبة الأشخاص وتجريح الهيئات ولا تتكلم إلا بخير . تعرف إلى من تلقاه من إخوانك وإن لم يطلب منك ذلك فإن أساس دعوتنا الحب والتعارف . الواجبات أكثر من الأوقات فعاون غيرك على الانتفاع بوقته وإن كان لك مهمة فأوجز في قضائها .


* واجعل صفاتك بين الناس متعددة فكن سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدًا لنفسه، حريصًا على وقته، منظمًا في شؤونه، نافعًا لغيره،قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادرًا على الكسب


بهذا نكون قد قضينا على جزء كبير من الفوضى وعملنا على نشر النظام والوحدة


رزقنا الله النظام والوحدة والأمن وأبعد عنا الفوضى والاستعجال



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق