الداعية.. صاحب الدار ليس ضيفًا



بقلم الشيخ: عاطف أبو زيتحار


لقد أمر الإسلام بإكرام الضيف والإحسان إليه، وأمر المزُور أن يكرم زائره، فيستقبله أحسن استقبال، يسلِّم عليه، ويبتسم إليه، ويأخذ بيديه، ويجلسه بين يديه يحتفي به ويكرمه، وقدوته في ذلك حبيبه صلى الله عليه وسلم الذي من صفاته إكرام الضيف، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله مع بدايات الوحي، فبعد نزول الوحي عليه في غار حراء بقوله تعالى:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)﴾ (العلق)، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي"، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي"، فَقَالَتْ: خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.


فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي! فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَو َمُخْرِجِيَّ هُمْ" قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ" (رواه البخاري).


بهذه الكلمات الطيبات التي تدل على كمال عقلها، وجزالة رأيها وقوة نفسها وثبات قلبها وعظم نفسها؛ طمأنته وربتت بها على كتفه، بأن مهمتك ودورك في المستقبل كبير، فأنت مزور ومضيف؛ لأن مكانة الضيف ومنزلته إن أُكرم الضيف والزائر أعلى وأكبر؛ لأنه رائد وقائد، جمع بين مستلزمات الريادة والقيادة ومكارم الأخلاق وخصال الخير، التي تشكل حول القائم بها سورًا عظيمًا، وبرجًا شاهقًا عاليًا من الحماية والحفظ والرعاية.


ولأن إكرام الضيف من كمال الإيمان أمر به الإسلام وحثَّ عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ" (رواه البخاري).


ولعلو مكانة المضيف عند الله قرن النبي بينه وبين المجاهد في حديث واحد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَطَبَ النَّاسَ بِتَبُوكَ: "مَا فِي النَّاسِ مِثْلُ رَجُلٍ آخِذٍ بِرَأْسِ فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَجْتَنِبُ شُرُورَ النَّاسِ، وَمِثْلُ آخَرَ بَادٍ فِي نِعْمَةٍ يَقْرِي ضَيْفَهُ وَيُعْطِي حَقَّهُ" (رواه أحمد).


وكلما بالغ المزور في إكرام زائره وفي تقديمه له على نفسه وأهله وولده راضية بذلك نفسه؛ فإن الله يبتسم إليه ويتعجب من صنيعه مع ضيفه، فعن أبي هريرة، قال: نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فأرسل إلى نسائه فقال: "هل عندكن من شيء، فقد نزل بي ضيف؟" قال: فقلن: لا والذي بعثك بالحق إلا الماء، إذ دخل عليه رجل من الأنصار، فقال: "يا فلان! هل عندك الليلة من شيء، تذهب بضيفي هذه الليلة؟" قال: نعم يا نبي الله، فذهب به إلى أهله، فقال للمرأة: هل عندك من شيء؟ قالت: نعم خبزة لنا، قال: قربيها، وكأنك تصلحين المصباح فأطفئيه، ففعلت، فجعل يضرب بيده كأنه يأكل مع ضيفه، فخلَّى بينه وبين الخبزة حتى أكل وبات عنده، فلما أصبح غدا ضيفه لحاجته، وغدا الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "كيف صنعت الليلة بضيفك؟" فظن أنه شكاه، فحدَّثه بالذي صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أخبرني جبريل، لقد عجب الله من صنيعك إلى ضيفك، أو ضحك بصنيعك إليه" (رواه الطبري).


عجب المحب من صنيع حبيبه وضحكة الرضا عنه، ينال هذا الخير وهذه الفيوضات الربانية والرحمات الإلهية، كل من قلَّد صنيع هذا الصحابي في إكرام الضيف والإحسان إليه.


ولقد حذَّر الإسلام من عدم إكرام الضيف أو الاستهانة، به عن إبراهيم بن شيبان، عن رجل، قال: دخل رجلان على عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، فنزع وسادة كان متكئًا عليها، فألقاها إليهما، فقالا: لا نريد هذا، إنما جئنا لنسمع شيئًا ننتفع به، فقال: إنه من لم يكرم ضيفه فليس من محمد صلى الله عليه وسلم ولا من إبراهيم، طوبى لعبد معلقًا بِرَسَنِ فرسه في سبيل الله، أفطر على كسرة وماء بارد، وويل للواثين الذين يلوثون مثل البقر، ارفع يا غلام! ضع يا غلام! وفي ذلك لا يذكرون الله) (رواه الطبري).


وليس من المروءة أن تستخدم الضيف بعد نزوله بك، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: قال لي رجاء بن حيوة: ما رأيت رجلاً أكمل عقلاً من أبيك، سهرت عنده ذات ليلة فغشَّّى السراج، فقال لي: يا رجاء! إن السراج قد غُشي، قال: ووصيف إلى جانبنا نائم، قال: فقلت له: فأنبه الوصيف، قال: قد نام، قال: فقلت له: أفأقوم أنا فأصلحه؟، قال: ليس من مروءة الرجل أن يستخدم ضيفه، وفي رواية البغدادي: استخدامه ضيفه، قال: فقام ووضع..، وأتى السراج، وأخرج فتيلته، وأخذ.. ففتحها، وصبَّ في السراج منها، ثم رجع، وقال لي: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز (البيهقي في شعب الإيمان).


وفوق كل ما سبق يأتي نبي الله إبراهيم عليه السلام المُكنى بأبي الضيفان، الذي أمر ابنه أن يغير عتبة بابه بسبب عدم جودها، وكثرة شكواها، قال عبد الله بن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس"، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تَرِكته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل، كأنه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء، فقالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك غير عتبة بابك قال ذاك أبي وأمرني أن أفارقك، فالحقِّ بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت خرج يبتغي لنا، قال كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله، فقال ما طعامكم؟ قالت: اللحم قال فما شرابكم قالت: الماء، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه"، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بعين مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأمرني أن أمسكك) البداية والنهاية.


هذه هي المرأة الصالحة التي تصلح لأن تكون رفيقةً للأنبياء، يدها عليا لا تشكو الله إلى خلقه تجود بما عندها، وتصبر على مر الحياة وشظفها؛ لأنها تؤمن من أعماق قلبها أن مهمة الأنبياء والمصلحين كبيرة، فهم رواد والرائد مزور ومضيف.


من الأحاديث والمواقف السابقة يتبين لنا مكانة المضيف عند الله، وما ينبغي عليه أن يفعله أو يقوم به مع زائره وضيفه، ومن الخير للمرء أن يكون مضيّفًا ومزورًا أفضل من أن يكون زائرًا أو ضيفًا؛ لأن يد المضيف أعلى من يد الضيف، ويد المزور أعلى من يد الزائر.


* في الدعوة إلى الله لا تكن ضيفًا على موائدها ولا زائرًا، وكن مضيفًا ومزورًا؛ لأن الضيف مهما طال به المقام فإنه سيرحل، ومهما نال من التشريف والتكريم فإنه مفارقه، ومهما بلغت درجة حبه لك وحبك له فإنه راحل عنك، فمكتوب ومقدر عليه الرحيل والمفارقة قبل الدخول والنزول.


بعض الإخوة الدعاة سامحهم الله بعد أن يطرق الباب ويؤذن ويسمح له بالدخول، ويجلس في ساحات الدعوة، يشرب من مائها، ويستنشق عذب نسماتها، ويذوق من خيراتها، ويمرح في ميدانها، وينظر من شرفاتها، يعيش فيها سعيدًا رغم آلامها وكثرة تبعاتها وارتفاع تضحياتها.. يظل فترة من الزمن بعد أن ذاق طعمها ونال من ظلها، يحملها ويعطيها ويضحِّي من أجلها.. ومع كثرة شربه من مائها واستنشاقه من نسماتها وأكله من ثمراتها ومرحه وجريه في ميدانها وساحاتها وعطائه وتضحيته لها من وقته وماله ونفسه وولده وبيته وكل ما يملك.. مع مرور الزمن ينسى المسكين أنه رب المنزل والمزور والمضيف.. يلبس عليه إبليس فيتحول إلى ضيف على موائدها دون أن يشعر، فينتظر من يكرمه ويستقبله ويجلسه ويطعمه يقف له محييًا ويشير إليه مادحًا.. وإن لم يفعل معه ذلك فإنه يغضب وينفعل ويثور لأتفه الأمور، ينسى كما ينسى بعض من يقطن مكة فضل المكان وشرفه، فيقسو قلبه من كثرة الإلف، فيفتر مرة وينسى أخرى ولو خرج المسكين بعيدًا عن المكان فترةً؛ لعرف الفضل والشرف والمكانة التي كان فيها؛ لأنه لا يعرف قيمة النعمة إلا من سلبت منه النعمة أو بعدت عنه مدة من الزمن.


إن الداعية صاحب فرح وصاحب الفرح يظل طوال يومه يطعم الناس ويسقيهم يستقبل هذا ويودع ذاك يدور بين الناس والسعادة تغمره والبهجة تحفه، ينسى نفسه مقابل إسعاد الآخرين يأكل الناس فيشبع، يشرب الناس فيرتوي، في نهاية يومه يرفع شعار الحمد لله الذي سترني مع زواري وأضيافي.


وهكذا الدعاة بين الناس ينادون عليهم، ويهتفون من أعماق قلوبهم بما هتف به الإمام البنا: ".. نحب أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء، وما أوقفنا هذا الموقف إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا، وملكت علينا مشاعرنا فأقضت مضاجعنا، وأسالت مدامعنا، وأنه لعزيز علينا جد عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا، ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس، فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم يومًا من الأيام الرسائل.


من عجائب المنتسبين إلى الدعوة حديثًا ما رأيته من بعضهم تجاه إخوانهم الذين يعملون معهم في ساحة واحدة وتجاه الدعوة التي يعملون في ساحاتها بالليل والنهار في الصباح والمساء؛ حيث يسكن بعض الإخوة في قرية واحدة يجمع بينهم المسجد في الخمس صلوات، يلتقون في اليوم الواحد أكثر من مرة أثناء الدخول والخروج وفي الأفراح والأتراح والسير في القرية؛ حيث نزل شباب الدعوة إلى الميدان بالليل قبل النهار يدورون على البيوت مرة بعد مرة، يعلقون لافتاتهم في الشوارع، يحدثون الناس بعد الصلوات وقبلها، أصبحوا شعلة من النشاط.


ولكن الأستاذ فلان.. كما هو ينزل للصلاة آخر الناس ويخرج أولهم يسلم سلامًا فاترًا، وضع الشباب على بيتة ملصقًا وكتبوا على بيته (معًا للإصلاح)، الوقت قصير والميدان فيه حراك من كل التيارات وقد رفع الجميع الرايات وهذا الأخ الكريم كما هو لم يحرك ساكنًا، حركته من عمله إلى بيته ومن بيته إلى صلاته. زاره أخوه مرةً، وسأل عنه فلم يجده، فأرسل إليه ورقة، ولكنه ظل يتأخر ويتقاعس مرة تلو الأخرى وإن حضر يحضر متأخرًا فاترًا، اتصل به أكثر من مرة فلم يرد، الوقت قصير والعمل كبير والمهمة عظيمة.. وبعد جلسة مصارحة معه من قلب إلى قلب ما كان منه إلا أن أفصح بأن أحدًا لم يكلفني بشيء، فقال له أخوه وهل رأيت أحبابك وهم يدورون بين الشوارع والأزقة يبلِّغون، ورأيتهم وهم يُطاردون ويُضربون..؟ قال: نعم فقال له: سامحك الله أخي الكريم، وهل كنت تنتظر تكليفًا في هذه الأيام؟


في نظري أن هذا المسكين نسي أنه مزور وصاحب فرح، فانتظر من يدعوه ويطعمه ويصنع له تشريفة قبل دخوله وأثناء خروجه. إن السر الأكبر والسبب الأعظم في إحجام الداعية عن العمل والنزول إلى الميدان بعد نعمة الاصطفاء والاجتباء هو ضعف الإيمان، فكلما قصَّر في حق ربه حرم من خير هذه الدعوة، وليت كل داعية يحرم من عمل أو لم يوفَّق في أدائه يرجع الحرمان إلى نفسه، ويفتش في ماضيه، بالتأكيد سيجد الخلل عنده وليس في الدعوة. قال عبد الله بن المبارك: "من تهاون بالأدب عُوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عُوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة" (نزهة المجالس). وليته بعد أن تتكشف له الحقيقة يرفع شعار (إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي).


يُرجع الأستاذ عبد الحميد البلالي ظاهرة ضعف التفاعل إلى سبب من هذه الأسباب: -
نشغاله بأمور خارج المؤسسة تأخذ معظم اهتماماته ووقته كأعمال شخصية أو مشاكل أسرية أو غيرها.
- عدم اقتناعه ببعض أهداف المؤسسة أو وسائلها.
- عدم حصوله على ما كان يرغب فيه من المؤسسة.
- الطبيعة العامة للفرد لتكوينه الشخصي.
- ضعف الاستيعاب. - عدم تلاؤم أنشطة المؤسسة مع رغباته وملكاته.
- الجمود على نمط واحد في الأنشطة.


مشكلات وحلول في حقل الدعوة لعبد الحميد البلالي بإيجاز:
هذا الأخ الذي مكث في بيته وانشغل بعمله، وأعطى الدعوة إن أعطى فضول وقته، وانتظر من يسلم عليه ويبتسم إليه.. وإذا لم يقم الناس من حوله بعمل تشريفة له يغضب وينفعل؛ لم يقرأ السيرة جيدًا ولم يفقه معاني بعض الأحاديث، ولو قرأ هذه الأحاديث وفكر فيها لنزل إلى الميدان، وما انتظر من أحد أن يكلفه بعمل، ولرفع شعار يوسف ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ﴾ (يوسف: من الآية 55) وكلما سمع هيعةً طار إليها. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا، فَقَالَ لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ" (رواه أحمد والترمذي والحاكم).


وعَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّاسُ مَهْ مَهْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ (رواه أبو داود).


وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ خَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى نَخْلَةٍ فَقَالَ: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ وَشَرِّ النَّاسِ، إِنَّ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ رَجُلًا عَمِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ أَوْ عَلَى قَدَمَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، وَإِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ رَجُلًا فَاجِرًا جَرِيئًا يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ لَا يَرْعَوِي إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ" (رواه أحمد).


فلنكن من خير الناس بنزولنا إلى الميدان، وليتحول من نظر إلى نفسه على أنه ضيف إلى مضيف حتى لا يلقي بنفسه إلى التهلكة، فالتهلكة في الابتعاد عن ميدانها وساحاتها ومحاريبها، والخير كل الخير في الصبر على مر تكاليفها؛ لأن مرها شهد في الدنيا والآخرة لأولي الألباب والبصائر.


مواقف وعبر من حياة بعض المصلحين:
إن من قرأ السيرة جيدًا يعلم أنه في ميدان الدعوة لا بد من أن يكون المزور والمضيف، ومن انتظر أن يكون الضيف فليعلم أن مكانه ليس في ساحاتها ولا بين فرسانها وشجعانها، ميدانه هناك مع الهمَّل والرعاع من الناس.


* هذا سلمان الفارسي يخرج من مؤخرة الصفوف؛ ليطرح فكرته الطيبة، ويشير على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، وقَالَ: "يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا إذْ كُنّا بِأَرْضِ فَارِسَ وَتَخَوّفْنَا الْخَيْلَ خَنْدَقْنَا عَلَيْنَا، فَهَلْ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ نُخَنْدِقَ؟ فَأَعْجَبَ رَأْيُ سَلْمَانَ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرُوا حِينَ دَعَاهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يَخْرُجُوا، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الْخُرُوجَ وَأَحَبّوا الثّبَاتَ فِي الْمَدِينَةِ" (مغازي الواقدي).


لم ينتظر سلمان رضي الله عنه تكليفًا؛ ولكن لأنه صاحب الليلة انشغل بالأمر وفكَّر فيه بجد، وكانت فكرته سرًّا من أسرار عودة المشركين إلى مكة بعد فوزهم بالخسار والسفال.


لقد نال سلمان شرف (سلمان منا آل البيت) بسبب إيمانه العميق وفهمه الدقيق وبصيرته القوية أنه في ميدان الدعوة مزور، فبعد أن خطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق بين كل عشرة 40 ذراعًا قال: واحتق المهاجرون والأنصار في سلمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" (السيرة النبوية لابن كثير).


وروى الطبراني بسند لا بأس به عن عمرو بن عوف المزني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّ الخندق من أجم الشيخين طرف بني حارثة حتى بلغ المذاد، فقطع لكل عشرة أربعين ذراعًا، وتنافس المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قويًّا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت"، وكان سلمان يعمل عمل عشرة رجال، حتى عانه قيس بن أبي صعصعة فلبط به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتوضأ له، وليغتسل به سلمان، وليكفئ الإناء خلفه" ففعل فكأنما حل من عقال.


*وهذا الحباب بن المنذر رضي الله عنه وهو في ساحة القتال وميدان الجهاد ينفعل بأمر الجيش، يرى الموقف، ويشاهد الساحة من حوله، فيقرأ ببصيرته أمر المعسكرين فيسرع الخطى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، متسائلاً في أدب: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي".


* وهذا عبد الله بن زيد رضي الله عنه لم يقل هذا أمر الوحي ومن خصائصه، وانتظر حتى يأتي الفرج من السماء، ولأنه مزور اهتم بالأمر وانفعل به انفعالاً، جعله يحوز السبق من بين كل الصحابة، ويحظى بشرف رؤيا الأذان، وما من مؤذن يؤذن في أي بقعة من بقاع الأرض إلا ذكر مع كل حرف منه اسم عبد الله بن زيد رضي الله عنه، عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا فَقِيلَ لَهُ انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ قَالَ فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ يَعْنِي الشَّبُّورَ، وَقَالَ زِيَادٌ شَبُّورُ الْيَهُودِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ قَالَ فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُرِيَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ قَالَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي الْأَذَانَ قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَتَمَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ "مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي" فَقَالَ سَبَقَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بِلَالُ قُمْ فَانْظُرْ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَافْعَلْهُ" قَالَ فَأَذَّنَ بِلَالٌ، قَالَ أَبُو بِشْرٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو عُمَيْرٍ أَنَّ الْأَنْصَارَ تَزْعُمُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ مَرِيضًا لَجَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَذِّنًا) (رواه أبو داود).


لقد انفعل بالأمر واهتم به وجعله قضيته بالرغم من أنه لم يكلف من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ففاز به وخلد ذكره وكثر من حسناته.


* وهكذا أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما بعد أن أسلما صنعا مع مصعب وسعد رضي الله عنهما تكاملاً وتكاتفًا في المدينة، وقادوا الناس إلى الإسلام، وأبعدوهم عن شبح الكفر، وأخذوا بنواصيهم إلى الله، ومعهم في الطريق يسير عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه الذي شعر بواجباته تجاه أمته، فبمجرد أن أسلم نزل إلى الميدان ودعا قومه إلى الله فقتلوه، قال فيه صلى الله عليه وسلم: "إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه".


من أراد السعادة لنفسه فلينزل إلى الميدان، ولا يحرم نفسه من شرف السعي فوق ترابه والوقوف في محرابه، ولا ينتظر تكليفًا من أحد ولا دفعًا ولا سوقًا؛ لأن الذي يساق هو البليد وفي محراب الدعوة يُبعد كل بليد حتى لا يعوق غيره ولا يعديه، أو يظل فيها كالماء الراكد المتغير بطول المكث.


متعنا الله بالسعي في ميدانها والوقوف في محرابها والثبات على طريقها والصبر على تضحياتها.. آمين آمين والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق