الدعوة والداعية بين الحَلبة والمحراب

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


من المعلوم لدى الرياضيين أن لكل لعبة مكانها المخصص لها ، ولها قوانينها التي تحكمها وتضبط سيرها ، ولكل لعبة رجالها الذين يجيدون مزاولتها ويحترفون في لعبها.


والمصارعة لها مكانها المخصص لها وهو ما يسمى
بالحَلبة ، وتكون بين لاعبين أو أكثر وجائزتها حزام نفيس لمن ينتصر على خصمه ، يحكم في كثير من الأحيان بين الجميع حكم متخصص في اللعبة


ومن المعروف والمسلم به بين المصارعين فوق حلبة المصارعة أن الأقوى ومن يوجه الضربات القوية والحركات البهلوانية في أغلب الأحيان هو من يفوز بالحزام بعد التثبيت وعد الحكم عليه أو الفوز بالضربة القاضية كما في المصارعة الحرة ، وساعتها رغم آلامه يفرح لأنه كسب الجولة وحطم أسطورة خصمه ، وهكذا في كرة القدم وغيرها من الألعاب الرياضية من يفوز يحصل ويحصد الجوائز


ومن المعلوم أيضا والمسلَّم به بين الدعاة أن مكان نشر الدعوة يسمى بالمحراب أيا كان هذا المكان فبمجرد أن يتحدث الداعية في المكان فإنه بحديثه يحوله إلى محراب والدعوة لها ضوابطها ولها شروطها من يخلص في أدائها ويتجرد أثناء حركته بها يحصد الرضى والرضوان والفوز بعطاء الرحمن


إن الدعاة على كراسي العلم ومنابر النور في محاريب عبادة ، يعبِّدون الناس لله رب العالمين ، ويأخذون بأيديهم إلى الخير والفضيلة ، ويأخذون بحجزهم بعيدا عن الشر والرذيلة ، يعلمونهم العزة ويبعدونهم عن شبح الذل والهوان ، يربوا الأشبال على خصال الخير وجوامع الفضائل ، ويعلموا النساء فنون العفة ، وينصحون الشباب ويوجهونهم ، يعظون وينصحون للولاة وأولي الأمر ، يعلمون الناس فنون الإخلاص في أداء أعمالهم وإنجازها على أكمل وجه ، يربوا المجتمع على الحب والتكافل والتراحم ويبعدوه عن شبح البغض والحسد والكره والقطيعة والشحناء ، يقولون كلمة الحق ولا يخافون في الله لومة لائم ، يفصلون بين الناس بالحق في الحكم بينهم ...دورهم كبير فهم يحدثون كل الشرائح والمستويات ويصلون إليهم ويؤثرون فيهم بالإيجاب أو السلب


ومن فضل الله عليهم ومن عظيم كرمه أن اصطفاهم لتبليغ دعوته وهذه مكانة عالية ورفيعة عند الله وعند الناس يقول الإمام الطبري معلقا على قول الله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) تلا الحسن: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال: هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحبّ الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله.


عن قتادة، قوله: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ )... الآية، قال: هذا عبد صدّق قولَه عملُه، ومولَجه مخرجُه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه، وإن المنافق عبد خالف قوله عمله، ومولجه مخرجه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه .تفسير الطبري


ومن الأمور التي يندى لها الجبين ويحزن من أجلها القلب وتدمع من خطورتها العين تحويل المحراب الدعوي إلى الله على يد بعض الدعاة إلى إستاد أو حلبة للفوز لا يهمه من الأمر سوى كسب الجولة ولو على حساب دعوته وقلوب الناس ، يحدث ذلك ونراه بين أبناء الصحوة الإسلامية على وجه العموم وفي بعض الأحيان بين من يحملون فكرة واحدة فيحدث بينهم لمس أكتاف يرى الناس ذلك على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز ومنابر الدعوة وكراسي العلماء ومواقع النت


لقد صليت الفجر في يوم وبعد الصلاة خرجت من المسجد وفي الطريق قابلني صديقي العزيز الذي يصلي في مسجد آخر لقيته منفعلا يبدوا عليه ذلك سلمت عليه وسكنت من روعه ثم سألته ما بك اليوم ؟كل يوم تلقاني سعيدا مسرورا تدعوا بالدعاء المبارك اللهم أدم علينا نعمة الفجر ولا تحرمنا منها وكنت أردد خلفك مبتسما والفرح والسرور يغمرني اللهم آمين فنظر إلى السيد المحامي الذي يسير معنا وقال له قص أنت ما تعرفه فقص علي قصة محزنة مقلقة قال لي : بأن الشيخ فلان رفع دعوى قضائية ضد فضيلة الشيخ بسبب أنه سبه على ملأ من الناس وكسب الجولة القضائية بتغريمه مبلغا من المال فرد عليه فضيلته بالنقض وأيدت القضية وتم الحجز على فضيلة الشيخ ومازالت القضية سجال بين الطرفين ، فسكنت من روع فضيلته وهدأت من ثائرته ولكن الأمر أقلقني فسألت نفسي سؤالا هل يا ترى نحن على حلبة مصارعة أم في إستاد كرة من يكسب يأخذ الكأس أو الحزام ، أين نحن من رحم العلم التي تسبق رحم الدم والنسب ؟ هذا موقف من مئات المواقف بين بعض الدعاة


إن الجو الحقيقي بين الدعاة هو جو التكامل الفكري والثقافي والعلمي والدعوي وتبادل الخبرات بعيدا عن الصراع الممقوت


فهذا يفرح لأن صديقه في المحراب الدعوي موفق يدعوا له ويبارك خطواته ، والآخر يسعد لبلوغ صديقه درجة علمية أو جائزة مادية ، وهذا يحزن لما حل بزميله وما نزل به من ضائقة ثم يسرع الخطى ولا ينتظر النداء ليمسح دمعه ويجفف عرقه ويدخل السعادة والسرور عليه


بين الجميع يرتفع الشعور والإحساس ومراعاة مشاعر الآخر ويكسوا الحب الحديث أثناء الحضور وبعد الانصراف وفي الغيبة


عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ قُلْتُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ قَالَ أَعَلَيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ) رواه البخاري


هذه هي مادة الشعور العالية هلاَّ تحلينا بها مع إخواننا وأساتذتنا وعلمائنا ومشايخنا في المحراب الدعوي ؟ إنه المحراب الذي يجمع ولا يفرق ويقوي ولا يضعف ويستر ولا يشف ولا يفضح ويحرص على مشاعر إخوانه ولا ينتهك حرماتهم ، ويحفظ لسانه وجسده من اختراق مشاعرهم وجرح أحاسيسهم ولا يفحش ولا يجهل !!


من غاب عنهم هذا الشعور وبعدت عنهم هذه المادة لا ينتظر من ورائهم رجاء أو نفع للمسلمين ،


لأنهم شغلوا بأنفسهم وبسفاسف الأمور ، والقضية الأساسية قد غابت عن وعيهم فهم في واد والإسلام في واد آخر ، ماذا لو صعد هذا الخطيب المنبر ليحدث الناس من يستمع إليه ويقبل عليه ويشرب من رحيقه الذي يحمله بين جنبيه بعد أن حمل البغض لإخوانه ؟ إن بعض الدعاة للأسف الشديد يحولون ساحات الدعوة في بعض الأحيان بسبب انشغالهم بتفاهات الأمور وتنقيبهم عن سوءات إخوانهم من محاريب للعبادة إلى ساحات للمصارعة والمبارزة ، وللأسف يجنون بسبب غفلتهم ليس حزاما ولا كأسا ولكنهم يجنون خيبة وخسرانا ، إنهم يساعدون مع من يريد أن يشغلنا عن جوهر قضايانا بتفاهات الأمور ، ويبطؤون عجلة التمكين والأخذ بيد الناس إلى الفضيلة وينشرون بذلك بذرة الغفلة بين جمهورهم وروادهم فكيف يستجيب الناس لهم وهم في شغب مستمر مع أنفسهم ومع من حولهم ؟ لقد أصابوا غيرهم وعدَوهم كما يعدي الصحيحَ الأجربُ فهل يفيق هؤلاء من غفلتهم ويقفوا مع أنفسهم وقفة جادة من أجل دين الله الذي يحملونه بين جوارحهم أسأل الله ذلك.


**وحتى نحول ساحات الدعوة إلى محاريب ونجنبها شبح الحلبة والمصارعة علينا بأن نفرق بين ساحة القلب وساحة الحلبة أو الإستاد:


فالفرق كبير والبون شاسع بين الساحتين فالإستاد أو الحلبة يوطأ بالأقدام ولربما أهين عليه من يجري فوقه أو أهان المكان الذي يلعب عليه لا مكان لترك البصمات عليه فهو لا يشعر ولا يقوى على الشعور ، أما قلب الداعية : فهو مادة الإحساس ومنبع الشعور يلعب الحب على ساحاته ويمرح يحب الجميل ويمج القبيح ويبغضه يشعر بمن حوله ترتفع دقاته مرحبة كل دقة تترنم بحب الإخوان والأهل والأحباب ترد الجميل بأجمل منه والمعروف بأحسن منه ترد على من أساء بالحب وتحيه بالعفو ، يقول الدكتور إيهاب فؤاد : كنت في بعثة إلى جامعة ميرلاند بأمريكا، وكنت أخطب الجمعة وأدعو إلى ديني ما استطعت إلى ذلك سبيلا


وفى أحد المرات فاجأني أحد الزملاء قائلا: أنا أكرهك، و انتظر أن أرد عليه بعنف


فقلت له : و أنا أحبك!!


قال :لا..... لا يمكن أن أكون أنا أكرهك وأنت تحبني......


قلت له : و الله أنا أحبك.....


فتغير الرجل وخجل من فعلته


ودارت الأيام دورتها و اقترب موعد العودة...وإذا بهذا الأخ يقابلني وأنا أقول له: هل تريد أن تقول لي كلمة أخيرة قبل الوداع؟


قال: نعم


قلت :وما تريد أن تقول؟


قال :أريد أن أعتذر لك عما بدر منى....لقد كنت أشعر بالغيرة منك ،لأنك تتكلم في الدين وتدعو الناس إلى الخير و أنا لا أستطيع أن أفعل ما تفعل


وهمّ بطبع قبلة اعتذار فبادرته أنا بها


أدركت ساعتها القيمة الغالية لذلك المعنى العظيم


" كسب القلوب مقدم على كسب المواقف "


فالعظمة الحقيقية في مخالطة الناس تكون بنشر زهور السماحة والحب بينهم ،فتمتلئ الدنيا بأطيب رحيقٍ و أعطر أريج فوّاح نعم ... إنه الحب الذي يقهر القلوب . أه


لأنه في المحراب الدعوي وليس على حلبة مصارعة امتص غضب الرجل وحوله من كاره إلى محب معتذر بعد أن رفع شعار كسب القلوب مقدم على كسب المواقف لأن أسلوب التحدي ولو بالحجة الدامغة يبغض صاحبه إلى الناس فيجب التلطف كما قال بعض العلماء


**وأيضا حتى تحول الساحة الدعوية إلى محراب، على الدعاة أن يرفعوا شعار (رحم العلم والدعوة أكبر وأبقى) فهو أكبر وأقوى من رحم المادة والنسب فبه يجتمع العلماء في مكان واحد يوم القيام روى الطبراني بإسناده عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم، ولا أبالي" . المعجم الكبير (2/84) وقال الهيثمي في المجمع (1/126): "رجاله موثقون".


تحيا بكم كل أرض تنزلون بها كأنكم في بقاع الأرض أمطار


وتشتهي العين فيكم منظرا حسنا كأنكم في عيون الناس أزهار


ونوركم يهتدي الساري برؤيته كأنكم في ظلام الليل أقمار


جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي . وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي . وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي . وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي . إنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ ) أَيْ مُحِبُّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ . أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ لِأُكَفِّرَ عَنْهُمْ المعائب ) مجموع فتاوى بن تيمية وأهل العلم جمعوا بين الذكر والشكر والطاعة والتبليغ والتوقيع عن الله رب العالمين والرجوع إليه في المنشط والمكره فرحمهم موصولة بالسماء وليست متمعكة بالطين والماء


عن الشعبي رضي الله عنه قال سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سُفْيَانُ رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا أُرَاهُ ابْنَ أَبْجَرَ قَالَ : سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً قَالَ هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيُقَال لَهُ ادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ فَيُقَالُ لَهُ أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ رَضِيتُ رَبِّ فَيَقُولُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ رَضِيتُ رَبِّ فَيَقُولُ هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ فَيَقُولُ رَضِيتُ رَبِّ قَالَ رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَر قَالَ وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )


**وتحول الساحة الدعوية إلى محراب باستشعار قيمة المكانة وفضل العمل


إن مكانة الداعية وقيمة ما يحمله عظيمة فيكفيه شرف أنه وريث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ولي الله قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه- التبيان آداب حملة القرآن- عن الإمامين الجليلين أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما قالا : إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي


إننا في حياتنا نفاضل في كثير من الأحيان بين الأشياء فنرجح كفة على كفة وشيئا على شيء ، ولكننا في حياتنا التعبدية من الصعب أن نفاضل بين الجهاد وغيره لأن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)


وجهادنا هو حركتنا المستمرة في دعوتنا وبين أبناء جلدتنا فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا كما قال الإمام البنا رحمه الله في رسالة دعوتنا وهو يتحدث عن عاطفة الداعية تجاه غيره


عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ : ( لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ) فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى فَقَالَ : أَيْنَ عَلِيٌّ ؟ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ فَقَالَ : نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ : ( عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ )


لأن المردود والعائد الذي يأتي من وراء جهاد الكلمة أكبر من المردود والعائد الذي يأتي من وراء جهاد السيف فعداد الإيمان يعمل باستمرار ولا ينقطع مع كل من دخل في الإسلام أو تاب وعاد بعد معصية . بحث الاعتذار عن التكاليف الدعوية ممن ولمن ؟


إن الله عز وجل يتولى الدفاع عن كل من بلغ عنه بصدق وتجرد ولكن تحدث من بعض الدعاة مفارقات عجيبة فالله عز وجل يتولى الدفاع عن كل من يوقع عنه وعن نبيه وبعضهم يتحول إلى مسعر حرب على إخوانه ممن يعمل معه في المحراب ، يغير من سبقهم ويتحامل على الناجح والموفق منهم ويتهمهم زورا وبهتانا ويصفهم بأقبح الصفات ويرميهم بأسوأ الألفاظ ، وهذا إن لم يتوب إلى ربه ومولاه فإن الله سيبتليه بموت القلب قبل أن يموت والجزاء من جنس العمل فلقد عمل على إماتة قلوب الناس بحجبهم عن بعض العلماء قال الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله : اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.


**وتحول الساحة أيضا إلى محراب بالنظر إلى عواقب الأمور فالعقلاء من العلماء هم من يحافظون على رصيدهم ولا يقوموا بإهدائه إلى غيرهم فهم لا يجرحون إلا من يستحق التجريح ويستخدمونه بآدابه وشروطه خوفا من الوقوع في الخطأ والزلل وحتى لا يتحول أحدهم إلى مفلس فقير لا حسنة له يوم القيامة بسبب كثرة هداياه إلى زملائه وإخوانه العلماء


عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ يَعِيبُهُ بَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَمَنْ بَغَى مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ بِهِ شَيْنَهُ حَبَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ) رواه أحمد


**وتحول الساحة الدعوية إلى محراب بالتجرد والإخلاص لله في القول والعمل بعيدا عن التعصب للرايات والتمسك بالحق بعيدا عن الأهواء فلقد ربط الله الحق بنفسه فقال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)الحج ويقول تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)الحج ويقول تعالى :(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) لقمان


لأن الأشخاص والرايات تتغير وتتبدل بتبدل الزمان وتغيره ، فالعاقل هو الذي يتجرد في قوله وفي فعله ويحول الساحة إلى محراب لا إلى حلبة ، كان عمر بن هبيرة الفزاري أميرا على العراقيين في عهد الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك ، وكان الخليفة يرسل إليه بالكتاب تلو الكتاب ويأمره بإنفاذ ما في هذا الكتاب ولو كان مجافيا للحق والصواب، فدعا ابن هبيرة كلا من الشعبي والحسن البصري يستفتيهما في ذلك وهل له من مخرج في دين الله ؟ فأجاب الشعبي جوابا فيه ملاطفة للخليفة ومسايرة للوالي والحسن البصري ساكت ، فالتفت عمر إلى الحسن وقال ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله ، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره فيزيلك عن سريرك هذا وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد ، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله في طاعته يكفك بائقة يزيد ابن عبد الملك في الآخرة وإن تك مع يزيد في معصية الله فإن الله يكلك إلى يزيد واعلم بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل ، فبكى عمر بن هبيرة الفزاري حتى بللت دموعه لحيته ومال عن الشعبي إلى الحسن وبالغ في إعظامه وإكرامه ، فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد فاجتمع عليهما الناس يسألونهما عن خبرهما مع أمير العراقيين فقال الشعبي : أيها الناس والذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولا أجهله ولكني أردت فيما قلت وجه ابن هبيرة وأراد الحسن وجه الله فأقصاني الله من ابن هبيرة وأدناه منه وحببه إليه .


**وتحول الساحة أيضا إلى محراب بكثرة الإخبات والتذلل لله رب العالمين في كل وقت ومع كل عمل فالداعية بالليل له مع ربه حال وبالنهار له مع الناس حال ( لا يجزع من ذل الدنيا ولا ينافس في عزها للناس حال وله حال الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب) كما قال الحسن لأن أعضاء الجسد إن لم تجد ملينا لها ارتفعت أصواتها وأكلت مكوناتها ، ولربما عدت على غيرها فأصابته من نارها ، وفي نظري أن هؤلاء الذين يحولون المحراب الدعوي إلى حلبة للمصارعة أو إستاد للكرة لم يمتعوا أعضاءهم بالإخبات والتذلل لله رب العالمين فارتفعت أصواتهم ضد إخوانهم وتعصبوا لفكرتهم ولرايتهم بعيدا عن الحق والصواب فمثلهم في ذلك كمثل الآلة إن لم تجد زيتا وملينا لمكوناتها ارتفع صوتها وقل إنتاجها وقصر عمرها


**إن الدعاة الذين يكثرون الشغب في المحراب الدعوي ضد إخوانهم وحولوه إلى حلبة للمصارعة أضاعوا عن جهل وغباء هيبة العلم والعلماء بكثرة شغبهم بل تعدى ضررهم إلى غيرهم (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) الحج وجعلوا الناس بذلك يعرضون عن الاستماع إليهم (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)) الكهف


*** وأخيرا بدلا من هذا الشغب وتحويل الساحة الدعوية من محراب إلى حلبة للمصارعة على من يفعل ذلك أن يربأ بنفسه وأن يبحث له عن تابع يثقل ميزانه بين يدي الله رب العالمين ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )


فابعث لك عن تابع تسعد به يوم القيامة فهو خير لك من الدنيا وما فيها ، وخير لك من حمر النعم ، وخير لك مما طلعت عليه الشمس


متعنا الله بالصحة ورزقنا نعمة الفهم آمين... آمين والحمد لله رب العالمين



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق