عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تنافرت المناهج اليوم تنافرا لم يسبق له مثيل , وأصبح الحوار معدوما بين أصحابها إلا من رحم الله , بعضهم حُق له أن ينفر من منهج أحل الدماء , وأباح انتهاك الأعراض , واعتقال الشرفاء , ومصادرة الأموال وحرية العباد , وبعضهم نفر من فكرة ظن أنها تزاحم فكرته , ومن منهج ظن أنه يطارد منهجه , فرفض الحوار وحرض القاتل , وأيد السفاح من أجل
القضاء على خصمه كما يظن , وبعضهم كره الحوار لتعارض مصالحه مع أصحاب هذا الاتجاه , وبعضهم فر من ميدانه , وترك ساحاته , باحثا عن مدفعه ورشاشه , ورصاصه القاتل وغازه المسيل , ليفتك بخصمه بعد أن نضب حواره وجف صوابه , واختل فكره واضطرب عقله , أراق الدماء وانتهك الأعراض ... وفعل بخصمه مالا يتصوره عقل – نازية في ثوب قبيح – فعل كل ذلك بعد أن هرب من ميدان الحوار وتورط في الدماء الطاهرة وانغمس بكليته فيها , فما كان له من حيلة إلا قتل خصمه واعتقاله , فما للحوار معه جدوى بعد أن طالبه الخصم بالقصاص , وهزمه مرة تلو مرة في ساحة وميدان النقاش ..
هذه شرائح متعددة , واتجاهات مختلفة , أصبح بينهم وبين الحوار مسافات شاسعة من التناكر والاختلاف يستحيل معها بلغة البشر التلاقي .. إلا أن يأذن الله " ليس لها من دون الله كاشفة "
هذه بعض المظاهر التي تدور بساحتنا , وتنضح على الاتجاهات المعاصرة , التي جمد بعضها , وتطرف وغالى البعض الآخر.., في حين لم يجد المعتدل له مكانا بين الجامد والغالي المتطرف , فأعرض ونأى بجانبه , ولو أن الجميع تناول الحوار مع خصمه أيا من كان وما كان حاله على طاولة الاعتدال والوسطية لما وجدنا تنافرا ..
إننا نلحظ أن الشقاق والنفور والإعراض يزداد يوما تلو يوم بين الاتجاهات الإسلامية بعضها مع بعض , ويكبر ويشتعل بين الاتجاهات الإسلامية واتجاهات المصالح من العلمانيين والليبراليين المتطرفين.. وغيرهم .., بل إننا نلحظ ازدياد الشقة بين بعض مؤسسات الدولة الواحدة وبين كثير من الاتجاهات , لاستخدام الأولى قوتها واستعراض عضلاتها على أبناء وطنها ..
بل الأعجب من ذلك أن ينعدم الحوار , ويحل النفور , بين الأب وابنه , والزوج وزوجته , والأخ وأخيه , والقريب وقريبه , والجار وجاره , والصديق وصديقه .. بسبب أكدار الزمان وتقلباته , واختلاف تفسير البعض للوضع الحالي .. فأصبحت ظاهرة في المدرسة والجامعة , في البيت والمسجد , في أوقات الراحة والعمل ..
إن المطالع لسورة الكهف يجد حوارا راقيا دار بين منهجين مختلفين , واتجاهين متضادين , وفكرتين متغايرتين .. , فكرة تحمل الاعتدال والوسطية , والأخرى تحمل التطرف والغلو ..
يصف الله تعالى حوار الغالي بقوله :" فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ".
ويصف تعالى حوار المعتدل بقوله :" قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ".
إننا عندما نقرأ حالة الحوار التي دارت بين الاتجاهين نجد دروسا كثيرة الوقوف عليها يفيدنا في واقعنا المعاصر ..
- بالرغم من اختلاف الوجهتين , والاتجاهين وصف القرآن صاحب كل اتجاه بالصاحب "فقال لصاحبه " "قال له صاحبه " والصحبة هي الملازمة والملاصقة , فلم تنتفي الصحبة , رغم المشارب المختلفة , والأفكار المتباينة , ولم يعتزل أحدهما صاحبه , أو يهجره .. يقول الراغب في مفرداته : الصاحب: الملازم إنسانا كان أو حيوانا، أو مكانا، أو زمانا. ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن - وهو الأصل والأكثر - أو بالعناية والهمة، وعلى هذا قال: لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي( ) , ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته، ويقال للمالك للشيء: هو صاحبه، وكذلك لمن يملك التصرف فيه. قال تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن}( )، {قال له صاحبه وهو يحاوره}( ) ، {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم}( ) ، {وأصحاب مدين}( ) ، {وأصحاب النار هم فيها خالدون}( ) ، {من أصحاب السعير}( )، وأما قوله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة}( ) أي: الموكلين بها لا المعذبين بها كما تقدم. وقد يضاف الصاحب إلى مسوسه نحو: صاحب الجيش، وإلى سائسه نحو: صاحب الأمير. والمصاحبة والاصطحاب أبلغ من الاجتماع؛ لأجل أن المصاحبة تقتضي طول لبثه، فكل اصطحاب اجتماع، وليس كل اجتماع اصطحابا، وقوله: {و لا تكن كصاحب الحوت}( )، وقوله: {ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة}( )، وقد سمي النبي عليه السلام صاحبهم تنبيها أنكم صحبتموه، وجربتموه وعرفتموه ظاهرة وباطنه، ولم تجدوا به خبلا وجنة، وكذلك قوله: {وما صاحبكم بمجنون}( ). والإصحاب للشيء: الانقياد له. وأصله أن يصير له صاحبا، ويقال: أصحب فلان: إذا كبر ابنه فصار صاحبه، وأصحب فلان فلانا: جعل صاحبا له. قال: {ولا هم منا يصحبون}( )، أي: لا يكون لهم من جهتنا ما يصحبهم من سكينة وروح وترفيق، ونحو ذلك مما يصحبه أولياءه، وأديم مصحب: أصحب الشعر الذي عليه ولم يجز عنه.( )
ولذلك على أهل التواضع أن لا يتخلوا ولا يبخلوا عن بذل النصح لأهل الكبر , وعلى العلماء أن لا يبخلوا عن بذل الأمر بالمعروف , والإكثار من النهي عن المنكر مع السلاطين والولاة , وعلى الأئمة والدعاة أن لا يمنعوا نصحهم عن العصاة .. لأن تخلي الدعاة والأئمة والعلماء عن نصح هؤلاء يحولهم إلى فرائس سهلة لشياطين الإنس والجن ..اطرق القلب ألف مرة فلربما يفتح لك في المرة الأولى بعد الألف أو الثانية أو الثالثة..كما قال أحد الدعاة .
- إن حوار الأول يحمل روح الكبر والتعالي , وملابس الباحث عن جولة لا عن قلب , ومن لبس ملابس الكبر وتوشح بالتعالي ألبسه الله وأذاقه من نفس اللباس :" من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة " "وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ".
وحوار الثاني يحمل روح النصح المحفوف بالتواضع , ويرتدي ملابس الباحث عن قلب لا عن جولة , ومن تعامل مع الخلق برفق ولين ولطف ورحمة ألبسه ملابس الحب وكساه ملابس الهيبة .. ..
- إن فارقا كبيرا بين حوار الاتجاهين , فالأول يظن أن هيبته في ماله , وأن عزه في سلطانه , فتكبر وتعالى , ونسي أن النعمة إن لم تعد على المنعم بالشكر والثناء , حولت الهيبة إلى خيبة , والنفع إلى ضر , وانقلبت على صاحبها بالويل والوبال ..
والثاني : يوقن ويؤمن من أعماقه بأن المُنعم هو الله فلابد من شكره والثناء عليه .." لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ".
- لقد بدأ المتكبر المتعجرف الحوار واسترسل فيه , ورغم تعاليه وتكبره وإصراره على المعصية ومنع حق الله في ماله , لم يبخل عليه المتواضع بالنصيحة ولم يستنكف عن الحوار , فراجعه مراجعة المحب , ونصحه نصيحة المشفق , ورهبه وخوفه من الاستمرار في فعله..
لقد رده إلى أصله وذكره مراحل تحوله من تراب إلى نطفة إلى أن سواه رجلا , ثم ذكره بثباته على مبدئه وعقيدته , ثم ذكره بمستلزمات الحفظ :" ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله "
ثم ذكره بأن البركة ليست في الكثرة ولا في القلة ولكن البركة فيمن يأخذ بمتطلباتها
- ثم رد عليه ردا من جنس حواره , ورفع راية بجوار رايته , وعلمه فقها أعلى من فقهه ..فوبخه بقوله " أكفرت بالذي خلقك من تراب .." وأخبره بأن من تعامل مع الخلق بصفات الجمال عامله الله بمثلها , ومن عامل خلقه بصفات الجلال عامله الله بمثلها , وقريبا سيرد الكبير على كبرك " فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا "
- ومن جمال حواره أنه لم يقاطعه ولم ينفعل عليه أثناء حديثه ..بل تركه يسترسل حتى انتهى ثم أجابه من جنس حواره فرد عليه ردا جمع بين القناعة العقلية والواقعية العلمية .
فعلى الشباب التيارات الإسلامية أن يكون حالهم مع خصومهم كحال المؤمن المعتدل مع الجاحد نعم الله الغالي في منعه , المتطرف في حواره.. نسأل الله القبول والتوفيق ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق