بقلم الشيخ/عاطف أبو زيتحار
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين , سيدنا محمد وعلى آله وصحبه " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)"
لقد عشنا قبل الثورة في ظل حكم بوليسي قمعي أذاقنا الذل ألواناً , أمرض أجسادنا , وأجاع بطوننا , وأحزن قلوبنا , وحيّر أفكارنا , وجلد ظهورنا , وفرّق جماعتنا , وشوه سمعتنا , وأهدر كرامتنا... وَالَى عدونا وعادى صديقنا..استقبل قبلتهم وآمن بفكرتهم , وأعطى ظهره لقبلتنا وحارب فكرتنا , سرق غلتنا , واستباح بيضتنا , ونهب ثروتنا... غاب ضميره , وظهر جوره , وعلا ظلمه وفجوره.. " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)"
" حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)"
فلما جاءت لحظة التطليق والإبانة الكبرى بيننا وبين هذا النظام , اجتمعت أعضاؤنا , وائتلفت قلوبنا , وتراصّت أبداننا , وتوحدت كلمتنا ,وارتفعت همّتنا من أجل تحقيق غايتنا , وظهرت في القسمات والفلتات والنظرات وجهتنا....
عشنا سوياً طوال أيام الثورة الماضية ثورة الخامس والعشرين من يناير أجمل لحظات وثوان ودقائق وساعات حياتنا , بعد أن دفن الجميع ذاته وتوارى تحت راية الوحدة والجماعة , فاستظل المثقف والأمي , والفقير والغني , وصاحب السيادة والمكانة والريادة والمغمور .. والمسلم والمسيحي , والشيخ والقسيس , وصاحب الفكر ومن لافكر له , والصغير والكبير , والرجل والمرأة .. استظل الجميع وتواروا تحت خيمة واحدة ..في كل الميادين والساحات والشوارع , تسمى بخيمة نحن وفعلنا وقلنا .... وقتلوا فيها أنا وفعلت وقلت ....
ولكن بعد أن هدأ الغبار وانجلى الدخان ..ورُفعت الخيمة , كشفت عن معادن متعددة , ومشارب مختلفة ومتنوعة , وأمزجة وطباع في غاية الغرابة وهذه حكمة الله في خلقه .. "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"
لقد ظهر بين شرائح المجتمع المختلفة , وبين طبقات الدعاة المتعددة , وحتى بين أصحاب الفكرة الواحدة , اختلاف في المشارب والأمزجة وتباين في الآراء.
في الصفحات المقبلة إطلالة متعددة العناصر مختلفة الأطر , نحاول أثناء عرضنا أن نجمع العناصر بعضها إلى بعض , ونقرب الأُطر بعضها من بعض , لنصنع صورة جميلة لهويتنا الإسلامية بوجه عام والدعوية بوجه خاص , ثم نملأ حواشيها ونزيّن أركانها , حتى تظهر في أبهى حلة وأجمل لمة..
نسأل الله أن يتقبل منا وأن يشرح صدورنا وأن يهيء لنا من أمرنا رشداً.
هب أن لصاً علم أن بيتاً به خزينة مجوهرات قيمة , يعرف مكانها وحجمها وقيمتها النفيسة وعلم أنه لاحيلة له إلا بنقب البيت حتى يصل إلى المجوهرات , لأن البيت محكم الغلق قوي الأسوار شاهق البنيان .. فأخذ ينقُب جداراً تلو جدار , يدمّر هنا وهناك حتى وصل إلى مجوهراته , ولمّا عاينها وجدها أجمل ممّا كان يتصور, وأقيَم مما كان يتخيل , وأكثر مما كان يتوقع ... فحملها وانصرف مسرعاً ليبني أحلامه على أكتاف ماخربه ونقضه ونهبه , وفي عالم الأحلام متسع لمن يضيق بهم الواقع... والسؤال هل سيعود إلى اعمار ماخربه ونقبه وحطمه بعد أن وصل إلى مراده وحقق حلمه؟؟؟
بالتأكيد ..لا وألف لا , لأن هذا الضمير الذي رضي بهذا الفعل القبيح , وسَطَى بهذه الطريقة لن يعود إلى اعمار ماخربه وضمّره وحطّمه .. لأن غربان الدنيا عششت وباضت وفرخت في قلبه , ونسجت عناكب الشرق والغرب خيوطها على صفحاته.
بمثل ذلك سَطَى على مصرنا لصوص في السياسة والفكر والثقافة والاقتصاد .... حتى في الدين .., فهل ننتظر منهم مساهمة ومشاركة في بنائها مرة ثانية بعد أن نقَبوا جدرانها ونهبوا كنزها ومجوهراتها وحطموا أبراجها وأسوارها ..؟؟
وهل ننتظر ممن رسم صورة الكنز وقيمة المجوهرات في ذهنه وخلده , وصمم وعقد العزم على نقب الجدران المتبقية , وشرع في تجهيز معاول الهدم من أجل الوصول إلى مراده وتحقيق غايته , هل ننتظر منه مساهمة في البناء والتعمير والتشييد ؟ إنه سيُجهز على البقية الباقية من أجل تحقيق حلمه المنشود..
إن الكبير هو من يعيش لقضايا أمته , يبذل ويضحى ولا ينتظر جزاء منهم ولا شكوراً , يعمل ويكد ويكافح وعينه ترقب المستقبل البعيد ...إنه يريد أن يعيش كبيراً ويموت كبيراً بل أمنيته أن يحشر يوم القيامة بين الكبار والعظماء وفي زمرتهم بل في مقدمتهم لأن للساقة رجالها...
أما صغير النفس فهو الذي يسعى من أجل تكثير الصحون وملأ البطون , والنوم الطويل داخل الدور والقصور...
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ».
فرق بين من يسعى للصلاة بعد أن تحركت فيه الذاتية الفاعلة والمنفعلة على السواء , وانطلق يريد الثواب والأجر , وبين من يمشي يبغي المنفعة الدنيوية .....
فرق بين من يسعى لإعمارها لا يبغى سوى ارضاء مولاه وإراحة ضميره وشفاء صدره المكلوم من الفاسدين والمفسدين , ومن يسعى من أجل ملأ خزان وقوده واشباع رغباته وملذاته.
فرق بين من يدفع الضريبة ليعطي لبلده وأهله وعشيرته .. وبين من يدفع ليقبض ...
فرق بين من تلطخت يديه وبدنه وكل جوارحه بما لا ينفك عنها الا بعد تقشيرها , وهو يحاول غسلها ظاناً أنها طهُرت ونظفت .. والناس ينظرون إليه وقد علقت القاذورات القديمة ببدنه وفكره .. يجمّل حديثه ويحلّي كلامه , ويعدّل من ثيابه , ويكثر من ابتساماته والتفاتاته وحركاته خاطباً ودهم راجياً رضاهم ... متناسياً قبيح فعله وكثرة فتواه وتحريفه تقدير المصلحة وأولويات الأمة ...
فرق بين من صدعنا في ظل النظام البائد بفتاواه المضروبة وآرائه الشاذة وفقهه المقلوب وحماقته الفكرية ورعونته الدعوية وعدم خروجه على حاكم الرعية وتبديعه لمن يدخل المجالس النيابية وبين من أوقف حياته ونذر وقته وأوقف فكره لمقاومة الظالمين والمنحرفين مهما كان الثمن: ضرب أو اعتقال .. سلب مال أو تشريد وطرد , حتى ولو وصل الأمر إلى القتل..
فهل تستفيق الأمة من سباتها وتستيقظ من غفلتها ورقدتها وتنتبه حتى لا ترتد عليها عجلة القطار ..
فرق بين بين يعمل في ظل عافية الابتلاء ومن يعمل في ظل ابتلاء العافية.
إن بناء مصر والمشاركة في إعمارها وتطهيرها من الخونة والعملاء والفاسدين والمفسدين وبقايا الفلول -غلت أيديهم- لهو من أوجب الواجبات... ولكن من يشارك في اعمارها؟؟؟؟
المرحلة المقبلة في إعمار مصر وإعادة بنائها تحتاج إلى تكاتف وشراكة وتعاون وتكافل من كل المصلحين..
مصر في حاجة إلى من يحمل عنها ويحملها وليست في حاجة إلى محمول يحتاج من يحمله..
إن الممعن النظر إلى وضعنا الحالي يلحظ أن مجموعة تحمل سجادة كبيرة فوق رأسها تريد من الناس أن يستظلوا تحتها ويفيئوا إليها من حرارة الجو المرتفعة وبرودته القارصة .. ومجموعة أخرى تجلس فوقها وتدلّى أرجلها لم يكتفوا بجلوسهم بل يركلونهم بأرجلهم ويقولون انضبطوا في حملكم ولا تكثروا من التفاتاتكم وحركاتكم .
وهؤلاء نقول لهم احملوا مع اخوانكم في المغرم وابتعدوا عن المغنم فليس وقته ولأن الثمرة لم تنضج بعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق