البثرات عقبات في طريق المصافي الدعوية


عاطف أبو زيتحار

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من المعلوم أن البثرة هي الخراج الصغير الذي يظهر في جسم الإنسان , وَقِيلَ فِي وَاحِدَتِهِ بَثْرَةٌ وَفِي الْجَمْعِ بُثُورٌ مِثْلُ تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ وَتُمُورٍ وَبَثِرَ بَثَرًا مِنْ بَابِ تَعِبَ أَيْضًا الْوَاحِدَةُ بَثْرَةٌ ، وَالْجَمْعُ : بَثَرَاتٌ مِثْلُ قَصَبٍ وَقَصَبَةٍ وَقَصَبَاتٍ وَبَثُرَ مِثْلُ قَرُبَ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ وَتَبَثَّرَ الْجِلْدُ تَنَفَّطَ .المصباح المنير في غريب الشرح الكبير والمصفى الدعوي: هي التي تنقي الأفراد من الشوائب , وتنظفهم مما علق بهم من بثور الصحبة وتقيحات العائلة , ولا يمر من بين فتحاتها وثقوبها الدقيقة إلا من يستحق المرور . كان لي صديق مقرب لازمني كثيرا ولازمته , ما عرفت عنه إلا خيرا , عرفته محبا لي صادقا في صحبته وحبه , في يوم من الأيام ظهر في رأسه بثرة صغيرة , فذهب إلى طبيب ليعالجها فقال له الطبيب مهونا ومقللا من شأنها: إنها بثرة صغيرة هزيلة , ثم أمسك برأسه وفتحها بعد
أن أعطاه مخدرا موضعيا , وبعد يوم من تنظيفها اشتد عليه الأمر , فذهب إلى طبيب آخر فطلب منه بعض التحاليل الطبية والأشعة ... , فاتضح أن هذه ليست بثرة صغيرة ولكنها ورم غير حميد , فعولج أخي هذا من وجعه كثيرا بعد أن استفحل أمر هذا المرض في رأسه وانتشر في بدنه , وأصبح عصيا على العلاج وأخيرا لقي ربه بعد معاناة دامت عدة أشهر .. رحمه الله رحمة واسعة . لقد لقيت أفراد أسرته في حال مرضه وبعد وفاته وكان لهم عتاب على الطبيب الأول الذي لم ينقب جيدا عن المرض بل تهاون واستهان به , ولم يأخذ حذره واحتياطاته اللازمة فأهاج المرض بعد سكونه ولم يتمكن من حصاره في مكانه , فقلت لهم مخففا عنهم لوعة الفراق : هذا قدر الله لقد أخفى عنا قدره ليمضي قضاءه , فاصبروا واحتسبوا وقرأت عليهم بعضا من آيات القرآن"قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)" التوبة ," أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)" النساء , "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) "الأعراف لقد فكرت طويلا في مرض هذا الأخ وما حدث له , وقلت في نفسي: إننا في المحاريب الدعوية والساحات الفكرية والتربوية نلحظ هذه البثرات والتقيحات على الجلد التربوي لبعض الأشخاص , وفي كثير من الأحيان يمر المريض بهذه البثرة من المصفى الدعوي على أمل أن يبرأ منها بعد ذلك لصغر حجمها وعدم تأثيرها على حركته وعطائه , وللأسف يتبين لنا بعد ذلك أنها ليست بثرة عادية , ولكنه مرض خطير استفحل عليه فأقعده وحطم حركته . إنها صرخة في أذن القائمين على المصافي التربوية أن لايفعلوا فعل هذا الطبيب مع مريضه , فيأخذوا حذرهم واحتياطاتهم كاملة , فيعالجوا مرضاهم , وينقوهم مما علق بهم من بثرات العائلة والصحبة برفق ولين قبل تمريرهم من المصفى التربوي الدعوي. إننا في كثير من الأحيان نرى البثرة على أنها ظاهرة عرضية سريعة الزوال أتت نتيجة تأثير عوامل معينة على البدن كزيادة أملاح أو دهون أو هرمونات في البدن دون النظر إلى امتدادها في البدن وتجزرها فيه وخطورتها عليه , فتمر من تحت يد المعالج المتحكم في المصفى دون عمل إشاعات متعددة وتحاليل مختلفة فكرية وثقافية ... , ليرى عمقها وتجزرها وامتدادها في الفكر والثقافة..., فيجتثها قبل المرور وينظفها قبل الوصول .
 بثرة الغضب
 أشرت إلى هذه البثرة على وجه الخصوص من بين بثرات كثيرة لخطورتها في هذا الوقت الفارق من عمر دعوتنا على الدعوة والدعاة , إننا نلحظ أن الاحتقان المسيطر على كثير من شرائح المجتمع وفصائله أثر بالسلب على الشرائح المختلفة في داخل التيار الإسلامي وخصوصا على شريحة الشباب , بعد أن مر بعضهم من المصفى الدعوي قبل أن ينقى وينظف بغسول الدعوة الطاهر , وقبل أن يمر بالتجارب المتعددة والاختبارات المتنوعة . لقد رفع البعض في الفضائيات وعلى شبكات التواصل رايات الغضب في وجوه المعارضين لهم ولم يعد بوسعهم ولا في مقدورهم احتواء الآخر , بل الأخطر من ذلك ما ظهر بين أبناء المحراب الواحد من لمس أكتاف وتثبيت .., وهم أحدهم من غضبه وزمجرته الفوز بالموقف لا الفوز بالقلب ولم يقف مع ماقاله الأستاذ عبد البديع صقر :إن اسلوب التحدي ولو بالحجة الدامغة يبغض صاحبه للناس فيجب التلطف لأن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف. ذهبت إلى القرية في زيارة للأهل , ففوجئت بشد وجذب بين شباب العائلة وشيوخها حول بعض الأمور العائلية , فأسرعت إلى الصلح بينهم , والعجيب أن كبار السن لانوا في أيدينا وأظهروا لنا احتراما وحبا وتركوا لنا الأمر كاملا , أما الشباب فحدث ولا حرج , نصلح هذا فينفر ذاك , أضاعوا وقتنا , وقتلوا جهدنا , وبحوا أصواتنا , صرخنا فيهم نهرناهم , ثم زجرناهم , ثم هددناهم بأساليب متعددة حتى يستجيبوا , وأنى لهم ذلك وقد فقدوا جانبا كبيرا في حياتهم عز وجوده وقل وندر بينهم - فقه الاعتذار- الذي لو عرفوا قيمته لاشتروه بكل ما يملكون , فبه يكبر صاحبه ولا يصغر في أعين أقرانه ومن بجواره .. لقد استخدمنا معهم أساليب متعددة ولكنها باءت بالفشل بعد إصرارهم على تنفيذ طلباتهم غير منقوصة.., ليس هذا بمستغرب عندي لأني أعرف طبيعة هذه الشريحة , ولكن العجيب هو ما أحدثته مع أحد الشباب المنتسب إلى قافلة الإخوان يسير معهم ليلا ونهارا صباحا ومساءا ومعروف عنه جده ونشاطه وحبه للدعوة وعندما وجدته شاردا كغيره من الشاردين ناديته مختبرا حبه وطاعته وولاءه فوجدته لاطاعة عنده ولا حبا ولا ولاء لم يجب النداء , فصرخت وناديت مرة ثانية فلم يجب ولم يلبي النداء , فخطر ببالي سريعا امتحان شدة المصفى الدعوي وضعفه فقلت له يا .... وناديته باسمه إنك لم تتربى جيدا وأنت بهذه الأفعال قليل التربية , فتركني وانصرف فجاء والده مسرعا وقدم اعتذارا , فتعجبت من اعتذار الوالد ومبادرته وتلكأ الشاب . إن هذا الوالد لم يأخذ حظا من التربية الدعوية ولم يشرب من أنهارها ولم يقطف من زهرها ولم يجري بين بساتينها ولم يأكل من خيراتها ..... أما الشاب فنشأ وأكل وشرب بعضا من خيراتها ..., ولكن الفارق أن الوالد شرب من معين العائلة وأكل من خيراتها وتربى على موائدها , في ثقافته أن الكبير له احترامه وسبقه وسنه ... استوقفني هذا الموقف كثيرا وخصوصا بعد اعتذار الوالد واستجابته لكل مطالبنا واعتذارنا نحن للشباب بسبب تقصيرنا في تربيتهم. لم يمر هذا الموقف مرور الكرام لأن هذا الموقف ليس وليد الصدفة أو فجائي القدر وإنما هو نتاج طبيعي لاتساع المصافي التربوية اتساعا جعلها تمرر مثل هذه البثور قبل تنظيفها وخصوصا بين الشباب . لقد تذكرت موقفا للحاج عباس السيسي رحمه الله وكان في ضيافة مجموعة من الإخوان معلما ومربيا لهم , فبدر من أحد الإخوة مخالفة تربوية , فأمره مسئوله أن يتقلب على التراب , فوجد في الأمر حرجا حيث يرتدي بدلة جميلة وستتسخ فنظر إلى الحاج عباس مغضبا لعله يخفف عنه أو يطلب من الأخ مسامحة أخيه والعفو عنه , ففوجئ بأن الحاج عباس يقول له :إن أخاك يقول لك تقلب على التراب هكذا وأخذ يتقلب على التراب بنفسه ليربي هذا الأخ على سرعة المبادرة والاستجابة وقبول الاعتذار .. وما زلت أذكر موقفا مع أحد الإخوة ونحن في الجامعة عندما حددنا رحلة سير على الأقدام , تنطلق بعد صلاة الفجر في يوم كذا , من مكان كذا , وكان أحد الأخوة قد أجريت له عملية جراحية صغيرة في إصبع قدمه , وطلب من إخوانه أن يعفوه ويقبلوا عذره , لأن المسافة قرابة الثلاثين كيلوا مترا , فقال له الأخ المسئول : احضر وسوف تشفى بإذن الله , فسار الإخوة وتأخر هذا الأخ لأن موعد السير كان في الساعة السادسة وأتى في الساعة الثامنة لأنه كان على سفر وأتى من مكان بعيدة , فلم يجد أحدا - لم يقل بركة ياجامع كما يدور على ألسنة العوام - ولكنه سار وحده متحاملا على جرحه حتى قطع المسافة , ومن المعروف أنك عندما تسير بجوار آخر يخفف عنك بحديثه وتخفف عنه بحديثك , والسير وحدك يجعلك تنجز في السير... المهم في الأمر والمفاجأة أن الإخوة بمجرد أن وصلوا إلى المكان نظر أحدهم خلفه فوجد الأخ يلحق بهم فكبر وكبر إخوانه وهللوا , وعندما سألوه قال لهم والله ما شعرت بتعب , يقول هذا الأخ بعد ذلك كنت في عناء وتعب مستمر قبل اجراء هذه العملية التي اجريتها من قبل اكثر من مرة ولكنها لم تنجح . الان لم اعد اشعر بتعب ولا وجع , فقلنا إنها بركة الطاعة والمبادرة . لم يغضب هذا الأخ من أمر أخيه ولم يزمجر ولم ينفعل ولكنه استجاب فنال بركة التطاوع واللين فعوفي وشفي بأمر الله رب العالمين. لقد اصطنعت أكثر من مرة مشاكل مع بعض الشباب مختبرا حلمهم وفقه الاعتذار عندهم وسرعة استجابتهم وقوة غضبهم وانفعالهم ولكني وجدت عجبا عجابا . لقيت شابا في يوم من الأيام فصنعت مشكلة معه على صناعة الطعام وطريقة النوم رفعت من صوتي عليه أرغيت في وجهه وأزبدت وهجت ومجت وبعد أن هدأت الأمور انتظرت منه عتابا أو اعتذارا فلم يفعل وجدته بطيء في صلحه وفيئه. إن قراءة المواقف التربوية والآداب الرمزية يجعلنا نخفف من حدة غضبنا وانفعالنا ونقف مع بثور الغضب فننظفها بانفسنا قبل أن ينظفها لنا غيرنا . ورد في قصص الأدب الرمزي الصوفي أن إبليس عليه لعنة الله طرق الباب على فرعون فقال فرعون من بالباب ؟ فرد إبليس قائلا : يا ملعون تقول أنا ربكم الأعلى ولا تعرف من بالباب !!!فعرفه فرعون فقال ادخل يا لعين فلما جلسا سأله فرعون هل تعلم من هو شر مني ومنك ؟ أنت عصيت الله ولم تسجد لآدم وأنا قلت ما علمت لكم من إله غيري ؟ فقال له إبليس شر مني ومنك من أتاه أخوه معتذرا فلم يقبل عذره . وروى البيهقي في شعب الإيمان قال : أنشدنا أبو عبد الرحمن السلمي ، أنشدني محمد بن طاهر الوزيري ، أنشدني المطرفي لبعضهم : اقبل معاذير من يأتيك معتذرا إن بر عندك فيما قال أو فجرا فقد أطاعك من أرضاك ظاهره وقد أضلك من يعصيك مستترا وروى الطبراني بإسناده عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "عفوا تعف نساؤكم ، وبروا آباءكم يبركم أبناؤكم ، ومن اعتذر إلى أخيه المسلم من شيء بلغه عنه فلم يقبل عذره لم يرد علي الحوض " لن يشرب لأنه حرم صديقه من ري البسمة ومن ترطيب قلبه بها ، فحرمه الله من ترطيب بدنه بالشرب من يد النبي صلى الله عليه وسلم والجزاء من جنس العمل. وروى البيهقي في شعب الإيمان عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " من اعتذر إلى أخيه فلم يعذره أو يقبل عذره كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس " المكس : الضَّريبَةُ التي يأخذُها الماكِسُ، وهو العَشَّارُ الذي يأخذ عشر الأموال كضرائب. فسامحوا إخوانكم وأقبلوا على دعوتكم وتفانوا في خدمتها وضحوا من أجل نصرتها ، ولا تقفوا عند سفا سف الأمور فتضلوا في متاهاتها فأنتم بدعوتكم أكبر من ذلك. يقول بن مازن : المؤمن يطلب معاذير إخوانه والمنافق يطلب عثراتهم. والشعبي يقول: إن كرام الناس أسرعهم مودة وأبطؤهم عداوة مثل الكوب من الفضة يبطيء الانكسار ويسرع الإنجبار وإن لئام الناس أبطؤهم مودة وأسرعهم عداوة مثل الكوب من الفخار يسرع الانكسار ويبطئ الإنجبار يقول الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان ويوصي ابن العربي قائلا : تناسى مساوئ الإخوان يدم لك ودهم هذه بعض المواقف والدرر التي تجعل الانسان يقف مع نفسه فيغمسها في حضانة الاعتذار وينأى بها بعيداعن الغضب والانفعال فيمر من المصفى التربوي والحضانة الدعوية في وقته وأوانه إن صيفا فصيفا وإن شتاء فشتاءا .
 علاج بثرة الغضب:
- تقوية الجانب الايماني - إعطائه الجرعة الكافية الوافية من التربية والاعداد - تضييق المصافي الدعوية فلا يمر منها إلا بعد تنقيته وتنظيفه - تقييم المحور السلوكي والأخلاقي بصفة مستمرة وإخباره بمدى تقدمه أو تأخره - استخدام وسائل التربية وتفعيلها – المعسكرات , الأسر , الرحلات , الكتائب....- استخداما أمثلا معهم كما كانت من قبل وعدم تغليب وسائل أخرى عليها. - الحرص على عدم طغيان المحاور الفكرية والسياسية على المحاور التعبدية والإيمانية والأخلاقية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق