خذوا زينتكم بين العادة والعبادة

د. عاطف زيتحار 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

 من المعلوم أن حب الجمال فطرة, فصاحب الفطرة السوية يعجبه المنظر الحسن في الأشياء من حوله, ويحب أن يرى الناس منه الحسن والجمال, ويستقذر القبح في نفسه والأشياء من حوله, لأن القبح مخالف للفطرة وضدها فهو غير مقبول, ولا يوجد في شريعة من الشرائع الدعوة إليه لأن الله جميل يحب الجمال والحسن, فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر" قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة, فقال:" إن الله تعالى جميل يحب الجمال, الكبر بطر الحق وغمص الناس", قال الطحاوي: ولا نعلم أحدا روى في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما رواه الكوفيون عنه فيه من هذا الحديث في صحة طريقه وفي حسن سياقه متنه., وفي رواية أخرى أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله إني أحب أن يكون رأسي دهيناً وثوبي غسيلاً وشراك نعلي جديداً أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس".

 فالله يحب أن تكون الملابس حسنة على البدن, جميلة لا يستقذرها الناس, قال تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ﴾ فعلى المرء أن يتزي بملابس تكسوه الهيبة والوقار لا ملابس ترخي عليه الخيبة والخسار. والإسلام عندما طلب من المرء أن يجمل من نفسه ويحسن من ثيابه حذره في نفس الوقت أن يُميله ما لبس من ثياب عن الحق؛ فيتكبر بثيابه على خلق الله ويتفاخر عليهم؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة" وفي رواية أبي داود: "أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبًا مِثْلَهُ". زَادَ عَنْ أَبِى عَوَانَةَ " ثُمَّ تُلَهَّبُ فِيهِ النَّارُ" . ومن كثرة النهي الوارد في السنة النبوية عن الخيلاء والكبر خاف الصحابة على أنفسهم أن يكونوا من هذا الصنف الممقوت؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة". فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنك لن تصنع ذلك خيلاء.( ). ولعل كثرة النهي عن الخيلاء والشهرة أن العرب اعتادوا أن يلبس أشرافهم وأغنياؤهم وساداتهم الطويل من الثياب, ويلبس عبيدهم وخدمهم وفقراؤهم القصير منه, فطول الثياب وقصره دليل التمييز بين طبقات المجتمع؛ فجاء النهي عن ذلك, وأمرت الشريعة الغني أن يرفع من ثوبه تشبها بالفقير كلون من ألوان التواضع وخفض الجناح وإعلان الاعتذار بعد أن سيطر عليه الكبر والبطر والاستعلاء؛ فكان النهي عن الارخاء والإسبال علاج للمجتمع في هذا الوقت, أما وقد تساوى الناس وانقطعت هذه العادة فلا بأس بأن يرخي هذا ثيابه في غير مخيلة ولا شهرة, أو يرفع هذا ثيابه في غير مخيلة ولا شهرة, روي أن أبا حنيفة بن النعمان ارتدى رداء ثميناً قيمته أربعمائة دينار وكان يجره على الأرض فقيل له: أولسنا نهينا عن هذا ؟ فقال: إنما ذلك لذوي الخيلاء ولسنا منهم.( ) قال الشوكاني: فلا بد من حمل قوله " فإنها المخيلة " في حديث جابر بن علي أنه خرج مخرج الغالب، فيكون الوعيد المذكور في حديث الباب متوجهاً إلى من فعل ذلك اختيالاً، والقول بأن كل إسبال من المخيلة أخذاً بظاهر حديث جابر ترده الضرورة، فإن كل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله، ويرده ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر لما عرفت.( ) ومن الخطورة في هذا الباب أن يرى بعض المتأخرين أن المخيلة قاصرة على الجلباب أو القمص, وهذا فيه قصور نظر, فقد تتطرق المخيلة والشهرة إلى القلنسوة والعمامة وغيرهما من الملابس فيقع المرأ في المحظور. فالرجل والمرأة عندما يرتديا ملابسهما -أياً كانت- وجب عليهما إخفاء وقتل المخيلة والشهرة والتعالي في نفسيهما, والنظر إلى الناس من حولهما نظرة تواضع, فمن نظر إلى من حوله على أن لون ثوبه ونوعه ليس كألوان وأنواع ثيابهم, فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والخيلاء والتكبر, فهو المقصود في هذه الأحاديث. قال الشوكاني معلقاً على حديث "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله تعالى ثوب مذلة": والحديث يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة وليس هذا الحديث مختصا بنفيس الثياب، بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوبا يخالف ملبوس الناس من الفقراء، ليراه الناس فيتعجبوا من لبسه ويعتقدوه، قاله ابن رسلان. وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها والموافق لملبوس الناس والمخالف لأن التحريم يدور مع الاشتهار، والمعتبر القصد وإن لم يطابق الواقع.( ) ومن المعلوم أن الأحكام تتغير بتغير العرف مع وجود نص فيها, وذلك إذا كان النص مبنياً على العرف وقد تغير هذا العرف فيما بعد ذلك؛ يقول أبو يوسف: يصار إلى العرف الطارئ بعد النص بناء على أن تغير العادة يستلزم تغير النص, حتى لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حياً لنص على ما يوافق العرف الحادث, فلو تغيرت تلك العادة التي كان النص باعتبارها إلى عادة أخرى لتغير النص.( ) وخلاصة القول : أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده, وكما أنه: نعم المال الصالح للرجل الصالح؛ فكذلك نعم الثياب الحسنة على البدن الحسن في غير مخيلة ولا إسراف, عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"( ), وأخرج أبو داود عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبى -صلى الله عليه وسلم- في ثوب دون فقال:" ألك مال؟". قال: نعم. قال:" من أي المال؟". قال: قد أتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال :" إذا آتاك الله مالا فليُر أثرُ نعمة الله عليك وكرامته"( ) يقول الصنعاني المعروف بالأمير: في هذه الأحاديث دلالة أن الله تعالى يحب من العبد إظهار نعمته في مأكله، وملبسه فإنه شكر للنعمة فعلي؛ ولأنه إذا رآه المحتاج في هيئة حسنة قصده؛ ليتصدق عليه وبذاذة الهيئة سؤال، وإظهار للفقر بلسان الحال ولذا قيل ولسان حالي بالشكاية أنطق وقيل وكفاك شاهد منظري عن مخبري.( ) أسأل الله أن يجمل باطننا بالإيمان كما جمل مخبرنا بنعمه. - مسلم: المسند الصحيح, ج1, ص93, ح رقم (91), الترمذي: سنن الترمذي, ج4, ص361, ح رقم (1999). - الطحاوي: بيان مشكل الاثار, ج14, ص94. - الطحاوي: مشكل الآثار, ج14, ص94. - الأعراف الآية: 31. - أبو داود: سنن أبي داود, ج4, ص77, ح رقم (4031). وأحمد بن حنبل: المسند, ج2, ص92, ح رقم (5664). - البخاري: الصحيح الجامع, ج3, ص1340, ح رقم (3465). - ابن مفلح المقدسي: الآداب الشرعية, ج3, ص521, ط: عالم الكتب. - الشوكاني: نيل الأوطار, تحقيق: عصام الدين الصبابطي, ج2, ص133, ط: دار الحديث، مصر, الطبعة: الأولى، 1413هـ - 1993م. - الشوكاني: نيل الأوطار, ج2, ص132. -الكمال بن الهمام: فتح القدير ج7, ص15, ط: دار الفكر. - الترمذي: السنن, ج5, ص123, حر قم (2819). - أبو داود: السنن, ج4, ص90, ح رقم (4065). - الصنعاني: سبل السلام, ج1, ص460, ط: دار الحديث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق