بقلم الشيخ\\عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منذ أيام طالعتنا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم , استنشقنا عبيرها , وتمتعنا بظلها , وما كدنا نتحرك قليلاً حتى لقينا في طريقنا شجرة أخرى منظرها جميل , وغصنها كبير , وعطرها أصيل.. لها ماض حسن وذكريات طيبة .. وكأن الله سبحانه وتعالى قيد لنا في رحلتنا الثورية هذه الأشجار لنستروح تحتها , ونأكل من ثمارها , ونتعلم من دروسها , ولتكون لنا زاداً في سيرنا ونوراً في طريقنا ....
إن حرارة الشمس العالية بالنهار , والبرودة القارصة بالليل , وصعاب وشدائد الطريق ...
, فهو غير معبد ولا مذلل , به مرتفعات ومنخفضات , وتعاريج والتواءات , وضواري ومفترسات .. تحتم وجود هذه الأشجار الطيبة على مسافات متقاربة , حتى يَهدأ الروع , ويَسكن الفؤاد , ويَستريح البدن .. ونحن من رحمة الله بنا في رحلتنا الثورية الشاقة جعل لنا أشجاراً كثيرة في طريقنا , فما إن نتحرك من تحت شجرة إلا ونلقى أخرى نستروح تحتها , ونصحب من ثمارها , ونرد ماءها العذب الطيب ... لقينا في طريقنا شجرة رمضان جَذَبنا جمالها , وطَيب عطرها , ووفير ثمارها ... ثم موسم الحج بفيوضاته وعميم خيراته , والعشر الأول بأريجها... ثم الهجرة النبوية المطهرة ..
واليوم مع هلال صفر نلمح في سيرنا من بعيد شجرة الميلاد الكريمة , ومثلنا اليوم معها ونحن نسير في طريقنا الثوري ومرورنا بمنعطف خطير , به تبة عالية , تسلقها شاق وصعب .. مثلنا كمثل موسى عليه السلام عندما قال لغلامه: "آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا" وما أجمله من غداء , وما أحلاه من ظل تحت هذه الشجرة الكريمة , فهيا بنا نأخذ من عيدانها وأغصانها ما يعيننا على تسلق هذه التبة العالية , ومن ثمارها ما يقوي أبداننا على مواصلة السير , ومن شكلها ومنظرها ما يشرح صدرونا , ويخفف من آلامنا , ويبعث على اليقين والأمل همتنا , ومن الهواء الدوار تحتها ما يدفعنا على السير وقطع المسافات , ومن قطرات الندى المتراكمة فوق أوراقها ما يروي ظمأنا ويذهب عطشنا , ومن منظر الطير الحائم والمحلق فوقها قتل الرسائل المعوقة , والكلمات الميئسة .
إنها شجرة غنية كريمة .. كم نحن في حاجة إلى زادها وخيراتها .. حتى نتحول أثناء سيرنا وفي رحلتنا الثورية إلى نسور وأسود , لأن النسر لا يطارد الذباب أو البعوض , والأسد لا يقع على الجيف , فلا نكثر الالتفات إلى مثيري الشغب وحاملي الأحقاد , نمضي في طريقنا لتحقيق أهدافنا وشعارنا "فاصدع بما تؤمر" وزادنا"فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين , واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"
وأثناء استرواحتنا تحت هذه الشجرة الذكية , ووقفتنا مع هذه المحطة الإيمانية نقتبس بعض الدروس لعلها تعيننا على استكمال سيرنا , ونذكر بعض النصائح لعلها تأخذ بحجزنا إلى النور وتبعدنا عن الظلام:
1- لتكن قناتنا سليمة وطريقنا مستقيم
القناة السليمة تحمل الماء إلى الأرض بسرعة , والطريق المستقيم يوصلك إلى بلوغ مرادك في أقرب وقت , أما القناة المملوءة بالحشائش , يتسرب الماء منها هنا وهناك , ولا يصل إلى الزرع بسرعة , والطريق الغير معبد يجعلك تبطئ من سيرك حتى لا تقع في المحذور , فتتأخر عن الوصول في الموعد المحدد ..
إننا عندما نطالع ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم نلحظ استقامة الطريق وتعبيده وتذليله , وكذلك سهولة سير الماء الرقراق في القناة والجدول وانحداره إلى الزرع الطيب في صورة جميلة مبهرة .. فهو من أشرف الناس نسباً روى الطبراني والحاكم والبيهقي وأبو نعيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خلق الله الخلق , فاختار من الخلق بني آدم , واختار من بني آدم العرب , واختار من العرب مُضر , واختار من مُضر قريشاً , واختار من قريش بني هاشم , واختارني من بني هاشم , فأنا خيار من خيار إلى خيار , فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم"
لقد استقامت القناة , واستوى الطريق حتى وصل إلينا , وابتعدت المعوقات والملوثات ليشع نوره على الدنيا بأسرها .
قال ابن عباس في قوله تعالى:" وتقلبك في الساجدين" من صلب نبي إلى صلب نبي حتى صرت نبياً" رواه البزار والطبراني وقال رجاله ثقات.
وروى ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : "ما ولدتني بَغيّ قط منذ خرجت من صلب آدم , ولم تزل تنازعني الأمم كابراً عن كابر حتى خرجت من أفضل حيين من العرب هاشم وزهرة"
وروى الطبراني وأبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح , من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي , ولم يُصبني من نكاح الجاهلية شيء , ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام"
ونحن إن أردنا استقامةً لأحوالنا , وصلاحاً لأنفسنا وبلادنا , وغرساً طيباً لمن بعدنا , علينا أن نذلل ونعبد الطريق , وننظف القناة , قال صلى الله عليه وسلم :" تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" وكما نختار لنطفنا علينا أن نختار لبلادنا ومن يصلح أمرها ويقوم اعوجاجها ولا يتأخر بها فنختار القوي الأمين صاحب العلم بالمهمة الموكلة , وإلا تأخرنا عن الوصول في الموعد المضروب , وجنينا مُرّ تأخرنا وسوء اختيارنا .
الامام الجويني كان فصيحاً بليغاً , ولكنه عند إلقائه لدرسه كانت تأتيه وعكة بين الحين والحين , وعندما سُئل عن السر أجاب بأن والده نذر أثناء حمل أمه به أن لا يطعمه إلا من حلال وبعد أن وضعته تشاغلت عنه أمه في يوم من الأيام فبكى فجاءت جارة لهم فألقمته ثديها , فجاء والده فنزعه , ثم دلاه وأخذ يضرب على ظهره قائلاً له كخ كخ قال الإمام الجويني رحمه الله: فتقيأت كثيراً وما أرى تلك السكتة التى تعتريني بين الحين إلا بقايا من هذا اللبن "
هذه بقايا لا دخل له فيها ولا اختيار له عند وصولها إلى جوفه صنعت به سكتة .. وما إغشاءة سعيد بن عامر الجمحي منا ببعيد عندما كان يتذكر مقتل خبيب رضي الله عنه وصلبه وعدم نصرته له منا ببعيد .
ونحن إن أردنا خيراً ببلادنا وأنفسنا , فما علينا إلا أن ننظف القنوات , ونسوي الطرقات , حتى لا نبتلى بالوعكات تلو الوعكات والسكتات من بعد السكتات , فلا نلوث الانتخابات بالتدليس والكذب وترويج الإشاعات ضد خصومنا في محراب السياسة , لأن الانتخابات طريق البناء وبداية التأسيس , فإن صلحت صلح ما بعدها إن شاء الله تعالى , وإن فسدت وبنيت على باطل فما بعدها باطل وفاسد , فإن أردنا أن يقوي الله ظهورنا ويشحذ هممنا ويرفع من عزائمنا , ويقوي من إرادتنا , فعلينا أن نسير على الطريق المستقيم " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً" والشيء إن صحت بدايته صحت نهايته , فلا تكن وعكة في طريق البناء , ولا عائقاً ولا سداً في قناة الحرية.
2- نورٌ يبدد الظلام وأملٌ يحطم اليأس
لما حملت آمنة بنت وهب برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقول: ما شعرت أني حملت به ولا وجدت ثقلة كما تجد النساء إلا أنني أنكرت رفع حيضتي وربما ترفعني وتعود , وأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان , قال لي : هل شعرت بأنك حملتي؟ فأقول: ما أدري , فقال إنك حملت بسيد هذه الأمة ونبيها , وآية ذلك أنه يخرج منه نورٌ يملأ قصور بُصرى من أرض الشام , فإذا وضع فسميه محمداً , ثم أمهلني حتى إذا دنت ولادتي أتاني ذلك , فقال قولي : أُعيذه بالواحد من شر كل حاسد ..."رواه البيهقي وابن اسحاق وابن سعد , وبُصرى هذه التي أضاءها نورُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أول ما فتح من بلاد الشام .
لقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط ظلام الجاهلية الدامس , ليبعث الحياة من جديد في جنباتها وليبدد ظلامها , "لوكان العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه" انتهز فرصة أنواره قلة فاقتبسوا منه وملئوا حقائبهم , ولم تفطن الأغلبية إليه فظلوا في ظلامهم وغيهم . فطنت حليمة فاستفادت واغتنمت الفرصة ... ونحن اليوم نعيش في رحاب أنوار ثورات أضاءها الشهداء بدمائهم , فهل نفطن فنقتبس من أنوارها وننتبه لخيراتها ؟ ونبتعد عن عريض الوساد قليل الفهم كثير الغباء الذي لا يفطن للشيء إلا بعد ذهابه وفوز غيره به.
روى ابن سعد والحاكم وأبو نعيم بسند حسن في الفتح عن عائشة قالت : كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها , فلما كانت تلك الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش : يامعشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟فقال القوم والله ما نعلمه , قال احفظوا ما أقول لكم : ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه شعرات متواترات كأنهن عرف فرس , لا يرضع ليلتين , فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله , فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله , فقالوا لقد ولد الليلة لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمداً , فالتقى القوم حتى جاء اليهودي فأخبروه الخبر فقال: اذهبوا معي حتى انظر إليه , فخرجوا حتى أدخلوه على آمنة فقالوا أَخرجي إلينا ابنك , فأخرجته وكشفوا له عن ظهره , فرأى تلك الشامة , فوقع مغشياً عليه , فلما أفاق , قالوا مالك؟قال : والله ذهبت النبوة من بني إسرائيل , أفرحتم به يا معشر قريش , والله ليسطوّن بكم سطوه يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب .
إنه الأمل واليقين , ولكن القوم كانوا في غفلة , فلما كَبُر نسوا غباءً منهم كلمة " ليسطُوَنّ بكم..",وبعضهم تناسى حسداً .
3- فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا
العناية الربانية والرعاية الإلهية أدركته , وأنوار صفات الجمال أحاطته , وهيبة صفات الجلال اكتنفته .. في حديث الطبراني وأبو نعيم وابن عساكر بسند جيد وصححه الحافظ المقدسي عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختوناً ولم يرى أحد سوءتي"
وهذا من حفظ الله لنبيه , ومن كرامته على ربه.
قالت حليمة رضي الله عنها في حديث جاء فيه : فرجعت وركبت أتاني وحملته عليها معي , فو الله ما يتعلق بها حمار , حتى إن صواحبي ليقُلْن لي :يا بنت أبي ذئيب ويحك اربعي علينا أهذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟ فأقول : نعم , فيقلن: والله إن لها لشأناً.
ونحن والله لو ركبنا خلفه واتبعنا نهجه لتقدمنا وسدنا وقدنا , لأننا لا نتعامل مع الأشياء من حولنا مباشرة بل بيننا وبينها الله إن رأى منا ما يحب أعاننا وإن رأى منا ما يكره وكلنا إلى أنفسنا , فهيا بنا نتبع سنته ونمشي في حياتنا وفق هديه حتى نصل إلى مرادنا ونحقق أهدافنا .
قالت حليمة السعدية : ثم قدمنا أرض بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض الله تعالى أجدب منها , فكانت غنمي تسرح ثم تروح شباعاً لُبّناً , فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع , إن كان الحاضرون ليقولون لرعاتهم : ويحكم انظروا حيث تسرح غنم حليمة فاسرحوا معها فيسرحون مع غنمي حيث تسرح فتروح أغنامهم جياعاُ ما فيها قطرة لبن , وتروح غنمي شباعاً لُبّناً"
4- مفطور على العدل
لقد فطره الله على العدل , كيف لا وقد أنزل عليه "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً"
أعطته حليمة ثديها فشربه , ثم أعطته الآخر فرفضه لأنه لا يريد أن يتعدى على حق غيره , فهو مفطور على العدل . وليتنا اليوم نتعلم منه في صغره فلا نعدوا على حق غيرنا وأن نضع نصب أعيننا أن إقامة الدولة على العدل دليل البقاء وإقامتها على الظلم دليل الانهيار , والنفس إذا شبت على العدل وأُرضعت لبانه وهي صغيرة أقامت الحق واستقامت عليه وهي كبيرة , فالعدل زاد من ملأ إناءه به كتب الله البقاء لملكه , ومن تخلى عنه وملأ حقائبه بأهوائه وملذاته وظلمه وجوره أضاع ملكه وعرضه للانهيار .
5- من حاد أُهِين ومن اقترب كُرّم
روى ابن الجوزي رحمه الله أن آمنة وضعت عليه إناء , فوجدته قد انفلق عنه وهو يمص إبهامه يشغب لبناً" وهذه رسالة لمن حوله أن لهذا الغلام مكانة عالية ومنزلة رفيعة , ورسائل الله يربت بها على أكتاف أوليائه ليشعرهم بمعيته وقربه وليعرفهم بمنزلتهم عنده , أو ليُعلم من بجوارهم عن مكانتهم ومنزلتهم عند ربهم .. ومن المعلوم أن الكرامة: أمر خارق للعادة يظهره الله على يد ولي من أوليائه تكريماً له , أما النبوة فهي: أمر خارق للعادة يظهره الله على يد نبي من أنبيائه تصديقاً له , وأما الإهانة فهي: أمر خارق للعادة يظهره الله على مدعي النبوة إهانة له , كما حدث مع مسيلمة الكذاب مدعي النبوة عندما أهانه الله فأعمى عيناً تفل فيها لتبرأ فعميت , وبمثل ذلك أو قريباً منه أهان الله مخادعي الشعوب ومن يرتدون ثوب الديكة على جسد الثعالب , فمن حاد عن شرع الله أُهين , ومن اقترب منه وانغمس فيه كُرم , ومن ظلم أهله وشعبه وعدى عليهم أهانه الله , ومن عدل فيهم وحكم بينهم بحكمه كُرّم ..
6-زادنا في طريقنا , وعدتنا عند سفرنا
روى ابن الجوزي في الوفا, قالت آمنة : "ثم قبض قبضة من الأرض , وأهوى ساجداً" وفي سجوده عند وضعه وولادته دليل على أن مبدأ أمره على القرب " قال تعالى : "واسجد واقترب "
ونحن إن أردنا سعادةً وفوزاً وفلاحاً وراحة لأنفسنا وضمائرنا , فعلينا بكثرة السجود بالليل والنهار " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " ولذلك كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم "أرحنا بها يا بلال"
نسأل الله أن يعيننا وأن يقوي ظهورنا وأن يسعد أيامنا وأن يملأ قلوبنا بفيض الإيمان به وجميل التوكل عليه إنه نعم المولى ونعم النصير...
Atef_200955@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق