بقلم الشيخ\\عاطف ابو زيتحار
المقدمة
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين , وعلى من سلك طريقهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين ..
ثم أما بعد..
الدعوة إلى الله فضلها كبير وشرفها عظيم وخيرها وفير , ويكفي الداعية فخراً أنه يوقع عن الله رب العالمين وعن رسوله سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )
ولذلك على الداعية الذي اجتباه ربه واختاره أن يحافظ على هذه النعمة العظيمة (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) ) فلا يترك منبراً إلا ويصعده , ولا باباً متاحاً إلا ويطرقه , ولا شرفة مفتوحة إلا ويتحدث منها , ولا قلباً
إلا ويبعث إليه بمعاني الكلمات الطيبة راجياً هدايته , وأن يحذر الانقلاب على هذه النعمة بحسده لأصدقائه وزملائه , وغيرته الغير شريفة منهم , أو أن يصاب بفتور وكسل , فيكثر من الاعتذار , أو يشوه صورتها بأفعاله القبيحة وسلوكياته السيئة , أو بمساهمته في صناعة وإيجاد بالونات دعوية سريعة الانفجار داخل غرف الدعوة المختلفة ,وعليه أن يتقي الله فلا يتعجل في ضم من أصيب بهرمون عائلي ضار , أو دعوي قاتل حتى يطهره بغسول الدعوة الطيب..
لقد تعهد الله بحفظ دينه ودعوته وقيد لها من يحملها ويدافع عنها على مر التاريخ , ولذلك تنفي الدعوة عن نفسها بين الحين والحين من لا يستحق حملها , ويستبدل الله به من هو خير منه (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) فإذا ما تقلب القلب كالقدر إذا استجمعت غلياناً وتغير حاله , فأصبح عاصياً بعد أن كان طائعاً , ومفرطاً بعد أن كان محافظاً , وقاسياً بعد أن كان هيناً ليناً , وتحولت الدعوة في قلبه إلى غريبة , وأصبح قلبه مع الأهواء كالريشة في غصن الشجرة يضربها الريح ويقلبها كيفما شاء .. فإنه ينزلق ويتدحرج من أعلى إلى أسفل , من سلمة إلى سلمة , ومن درجة إلى درجة , فإذا ما استيقظ وعاد إلى رشده , فإنه سيكمل السير ويواصل الرحلة , ويصعد بعد أن تدحرج قليلاً إن كان عاقلاً .
والإنسان الفطن هو الذي يستدرك بسرعة قبل فوات الأوان , كما قال الشيخ السباعي رحمه الله: ليس من العيب أن تقع ولكن العيب أن تظل راقداً على الأرض .
إننا نلحظ أن ظاهرة التساقط في المحراب الدعوي تنموا وتسري في جسد الدعوة وتظهر للعوام في حالتين لا ثالث لهما: الرخاء والشدة , أو قل إن شئت فتنة العافية , وفتنة الابتلاء بالشدائد والمحن , ولذلك عندما نقارن بين ظاهرة التساقط قبل وبعد ثورة يناير 2011 وثورة يوليو 1952 نلحظ أن ثورة يوليو أحدثت زلزالاً شديداً في داخل المحراب الدعوي , فارتج البيت وكادت جدرانه أن تتصدع لولا عناية الله التي تداركت دعوته , حفظت جدرانها من التصدع , وسُقُفَها من الانهيار ...
لقد نضح إناء البعض يومها بما فيه , فمنهم من تعجل في الحكم على الناس فحكم بتكفير بعضهم , ومنهم من ترك المحراب ليعلنها مستريح ومستراح , ومنهم من انقلب عليها فأصبح سهماً بعد أن كان درعاً ... ويرجع السر في ذلك إلى أن المعالم عند هؤلاء لم تكن واضحة , والمعوقات لم تكن مرسومة , والزاد لم يكن حاضراً .
نعم لقد حدث زلزال شديد بعد ثورة يوليو في المحراب الدعوي للجماعة الأم , وكان السر في ذلك السياط التي ألهبت ظهورهم , والفتنة الكبيرة التي تعرضوا لها من قِبَل عبد الناصر وزبانيته في هذا الوقت , فلقد زيفوا الحقائق , وزوروا الواقع , وانقلبوا على إخوانهم ورفاق دربهم.. , ولم يتيحوا لخصومهم أن يُفصحوا عن وجهة نظرهم , وليدافعوا عن أنفسهم , في حين أنهم أخذوا فرصتهم وسخروا لأنفسهم ولأعوانهم كل وسائل الإعلام في إشعال النيران ضد الإخوان.
ومما يذكر في هذا الميدان ما قاله الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله في مذكراته:ولعبت الأيدي دورها , فذهب الفريق المتمرد إلى منزل فضيلة المرشد وقطعوا أسلاك التليفون . وتجرأ البعض وطالبوه بالتخلي عن قيادة الإخوان , ولكن ليس حسن الهضيبي بالذي يخضع للتهديد ولو كان السيف على رقبته , وخرجوا من عنده واحتلوا المركز العام وفي المساء دق جرس التليفون في مسكن صاحب البيت الذي كنت أسكنه في المطرية وكان على التليفون من الناحية الأخرى الأستاذ فريد عبد الخالق الذي قال لي احضر فوراً نحن في بيت فضيلة المرشد وأرسلوا إلى دراجة بخارية ذات مقعد وهنا لا أنسى موقفاً لصاحب المنزل الذي كنت أشغل شقة منه إذ اعترض على ذهابي في الدراجة البخارية وقال لي إننا لسنا متأكدين من أن الذي خاطبك تليفونياً هو الأستاذ فريد هذا إلى جانب أنك لا تعرف هوية الذين سيصحبونك إلى منزل المرشد كما قيل لك , والأسلم أن تأتي معي في سيارتي الأسكودا والدراجة تسير أمامنا حتى نصل إلى منزل المرشد وتم هذا فعلاً , ولما دخلت مسكن المرشد وجدت فيه لفيفاً من الإخوان وفي حالة غير طبيعية , فاستفسرت فعلمت بالذي حدث وكان من الحاضرين هناك الأخ الأستاذ هارون المجددي , فطلبت منه أن يوصلني بسيارته الاستودبيكر إلى المركز العام , فوجدت الباب موصداً بالسلاسل وفي حراسة أخ من الداخل , فلما طلبت منه أن يفتح الباب أمهلني حتى يستأذن المرحوم الأستاذ صالح عشماوي , فقلت له والله طيب أجاء اليوم الذي لا أدخل فيه المركز العام إلا بإذن ؟؟!! ولكنه ترك الباب ثم عاد وفتحه , فدخلت حيث وجدت حوالي الأربعين شخصاً من أفراد النظام معسكرين في البهو الواسع نائمين على البساط ثم غرفة المرشد حيث وجدت المرحوم صالح عشماوي , فقلت له: ما هذا المولد يا حاج صالح؟؟ فقال لي باسماً هذا مولد النبي , ودارت مفاوضات من الدار إلى حيث يوجد عبد الرحمن السندي وكان يتولى الحديث التليفوني الأستاذ أحمد عبد العزيز جلال , وبعد لأي شديد وطويل وكان الفجر قد أوشك على الأذان قبل عبد الرحمن السندي أن ينسحب المعسكرون في الدار , وفي ذلك الوقت كان فريق آخر من الإخوان يجتمع في جامع السلطان حسن ليأتوا إلى الدار ويخرجوا من فيها , ولكن الله لم يرد أن يحدث بين الإخوان صدام , فما إن خرج المعسكرون من المركز العام حتى وصل الذين كانوا مجتمعين في جامع السلطان حسن , فحمدت الله من كل كياني على أن هذا الأمر قد انتهى على أيسر ما يكون , وأقام الإخوان لفضيلة المرشد حفلاً رائعاً في المركز العام حضره عشرات الألوف من الإخوان , ومن يومها انتهى أمر عبد الرحمن السندي ومن معه من صفوف الإخوان , ولم يعد لهم في الجماعة من شأن , وبدأ عبد الناصر يحتضنه , فعينه في شركة شل , وأسكنه فيلا في الإسماعيلية فيها كل وسائل الراحة , ولكنه كعادته اعتقل في عام 1965 كل الإخوان الذين سبق اعتقالهم حتى الأستاذ عبد العزيز كامل وأمثاله ممن خرجوا على الإخوان بمن فيهم عبد الرحمن السندي الذي ناله في هذا الاعتقال من الإيذاء ما أضر بصحته كثيراً فما أن خرج من المعتقل حتى انتقل إلى رحمة الله ..
كان هذا فعل النظام مع جماعة الإخوان , من لم يستجب له وينصاع لأوامره ويستسلم له ألهب ظهره وأجاع بطنه وغيبه بعيداً عن أهله ... ومن استجاب له أغراه بماله واشترى ضميره بأبخس الأثمان .
لقد وصل الأمر إلى ذروته عندما صنع النظام في هذا الوقت ظاهرة في غاية الخطورة تسمى بظاهرة التكفير انتشرت نيرانها وطالت كل شيء حتى الإخوان أنفسهم , يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله تعالى:
وعندما كنا في المعتقلات , وكان عذاب زبانية عبد الناصر على أشد صوره في قسوته ووحشيته , تصور بعض المعذبين أن ما وقع عليهم لا يمكن أن يصدر من مسلم في قلبه ذرة من إيمان , ولكنه يصدر عن أعدى أعداء المسلمين وأفحشهم ضراوة على الإسلام , وفي غمار هذا الهول الشنيع نبتت فكرة التكفير عند بعض الشباب وراحت تصرفات رجال السجون والمباحث تنمي معنى التكفير في عقول ذلك الشباب الذي يبيت على تعذيب ويصحوا على تعذيب دونه ما رواه التاريخ لنا عن محاكم التفتيش , ورسخت فكرة التكفير في ذهن بعض الشباب وآمنوا بها في اقتناع عجيب واتسع نطاقه في معتقل مزرعة ليمان طره حتى بلغت أخبارها فضيلة الأستاذ الهضيبي رضوان الله عليه إذ كان معتقلاً هناك , فاستدعى رؤساءهم وناقشهم في الفكرة وكانت الجلسة تنتهي بما يشعر باقتناعهم بكلامه وما إن يخرجوا من عنده حتى يعودوا لما كانوا عليه حتى يئس من إقلاعهم عن تلك الفكرة , فكتب كتابه دعاة لا قضاة مستعيناً بابنه الأستاذ مأمون الهضيبي المستشار في محكمة الاستئناف العالي والأستاذ مصطفى مشهور , وكان الحق ما رآه فضيلته.
هذا ما فعله النظام بالإخوان بعد ثورة يوليو 1952 ولقد أُفردت له مجلدات وكتب كثيرة , القراءة فيها تطول عند استعراضنا لظاهرة التساقط في هذا الوقت ,والأسباب التي أدت إليها , وحسبنا هذه الإشارة السريعة.
ومن نفس الإناء مع الاختلاف في الشكل قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 بقليل وبعدها شرب المحراب الدعوي من زلزال آخر يسمى بزلزال العافية , وبالرغم من شدة سوط الفتنة على الظهور في ثورة يوليو, إلا إن سوط العافية في نظري خطره أكبر وفتنته أشد..
في هذا المبحث إن شاء الله تعالى نعرض لبعض الأمراض الموجودة والمركوزة في فكر البعض , بعد أن ظهرت في المحراب الدعوي قبل وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير , والتي بسببها تركوا الدعوة , أو كانوا سبباً في سقوط غيرهم من قطارها , أو كانوا سبباً مباشراً في إعاقة البعض من الدخول إلى ساحاتها , وعدم السير مع قافلتها .
نسأل الله أن يجنبنا الوقوع في الخطأ , أو أن نكون سبباً في إبعاد غيرنا أو إقصائه عن طريقه فهداية فرد واحد خيرٌ من الدنيا وما فيها كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم .
جزاك الله خيرا
ردحذف