عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سمعنا عن الهاشتاج الذي عم البلاد العربية والإسلامية , وانقسم الناس إلى : مؤيد , ومعارض , ومشاهد .
خرجت فئة وشريحة تدافع عن الكلمة .., وشرعت تهاجم من يدافع عن الهاشتاج , وظهرت أخرى بعد انتشاره تهاجم ناشره وتشيطنه ,
وتذب عن عرض الموصوف به , بل وصل بهم الأمر إلى القول بأن قائل هذه الكلمة بذيء , لم يعرف التربية , ووقفت أخرى تشاهد الفريقين من بعيد , ترقب عداد المؤيدين والمعارضين , فمن ارتفع سهمه مالت معه , وهذه الشريحة من بينها من سكت خوفا من سوط الموصوف , ومنهم من سكت حياء من الوصف لاصطدامه بالعرف .
وحتى تستريح القلوب , وتطمئن النفوس ويهدأ المعارض , ويستريح المؤيد , وينطق الساكت , ويتحرك الخائف , لابد من العودة إلى اللغة والشريعة , والعرف والتاريخ ..
إن كلمة العرص في اللغة تدور حول معان منها :
اللحم الخبيث الذي اختلط بالرماد .
والعرص : السيف المضطربة ظبته في يد الضارب .
والعرص : الناقة أو البعير المضطرب الذي يضرب برجله الأرض .
والعرص : البيت الذي خبث ريحه , وانتشر نتنه ...
والعرص : البيت الذي لا سقف له .., وهكذا.
فمن خبث فعله , ونتنت أخلاقه , وعم ريحه القبيحة أرجاء الأرض , واضطرب الحكم في يده , استحق الوصف ..
ولو أردنا إسقاط المعنى اللغوي على الموصوف , لوجدنا أن الكلمة بجوار أفعاله قليلة , فهو يستحق أكثر من ذلك أليس الموصوف به .. خبث فعله , ونتنت أخلاقه , وعم ريحه القبيحة أرجاء الأرض , واضطرب الحكم في يده ... ؟.
أليس الموصوف به هو الذي قتل الركع السجود في رمضان والأشهر الحرم ؟.
أليس الموصوف به هو الذي أمر باعتقال الحرائر , واغتصابهن ؟.
أليس الموصوف به هو الذي أمر باقتحام البيوت وترويع الآمنين ؟.
ثم أليس الموصوف به هو الذي أشعل النيران في المساجد ؟.
أجيبوني : كم قتل من الشرفاء , واعتقل من الأحرار والحرائر, وصادر من الأموال , واغتصب من النساء ؟.
والكلمة في العرف تأتي مرادفة للديوث : والديوث هو الذي لا يغار على أهله , أو يرى الفاحشة فيغمض عينيه ويسكت عنها .., من أجل ذلك تعافها الأنفس ولا يقبلها العرف , لأنها تحُط من شأن الموصوف بها , وتلوث خلق المكثر من قولها .
وهنا لا بد من وقفة مع مسايرة الواقع , الذي يجعلنا في بعض الأحيان نرد الحق , ونقبل الباطل ونرضى به , لأنه فرض نفسه .
فبعض الذين انبروا ليدافعوا عن عرض الموصوف بالهاشتاج , لم نسمع لهم صوتا عندما اعتقلت الفتيات وتم التحرش بهن , بل اغتصب بعضهن , أليست هذه أختك , أو أمك , أو عمتك .., وسكوتك عن الدفاع عنها في هذا الوقت لون من ألوان التدييث ؟
كان أحرى بك إن كنت حرا أن تدافع عن الحرائر , وعن الشباب الذي انتهك عرضه , لا أن تسكت هناك وتساير الواقع اليوم إرضاء لمن بيده لجامك !!
وأما التاريخ : فالكلمة تأريخها قديم .., ولكنها ارتبطت في عهد الاحتلال بالضباط والجنود الذين يحرسون بيوت الدعارة المرخصة , أو يجمعون الضرائب من هذه البيوت , أو ينقبون عن البيوت التي لم ترخص , فيجبرونها على استخراج الرخصة وإلا أغلقوها ...
وأما في الشريعة : فإن الهاشتاج لون من ألوان فقه معاملة السفهاء , وهذا الوصف يدخل تحت هذا الفقه , فالسفه هو : الخفة , والاضطراب , والجهل , والطيش , وخفة الحلم والعقل , وسَفِه رأيُه إذا كان مَضْطربا : لا اسِتقامَةَ له..
فمن جمع هذه الأوصاف احتاج إلى معاملة خاصة , تليق به وبصفاته التي جمعها , تردعه إذا اضطرب , وترده إذا طاش , وتلجمه إذا خف , وتعلمه إذا جهل , وتؤدبه إذا شرد , وساءت أخلاقه ..
أما إذا تركت للسفيه الحبل على غاربه , فإن سفهه سيلتهم أخلاقك , ويسيء إلى سمعتك , ويحطم مكانتك ومنزلتك بين أهلك وقومك ...
ومن المصائب التي أصابت الحركات الإسلامية في الفترة الأخيرة , أنها لم تتعلم فقه معاملة السفهاء , ولم تدرب من يجيب هؤلاء , من أجل ذلك تطاولوا عليهم في وسائل الإعلام وغيرها ليلا ونهارا ..
هذا حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا يوم أحد فقه مخاطبة السفهاء , حيث لقي سباع بن عبدالعزى الغبشانى، وكان يكنى بأبى نيار، فقال له حمزة: هلم إلى يا ابن مقطعة البظور. وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، وكانت ختانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. السيرة النبوية لابن كثير.
وهذا أسيد بن حضير يعلمنا في موقف آخر هذا الفقه مع المنافقين : روى ابن إسحاق والبيهقي وأبو نعيم عن موسى بن عقبة، وعروة وابن إسحاق عن محمد بن عمر عن ابن رومان وعاصم بن عمر بن قتادة واللفظ لابن عمر قالوا: فقدت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء من بين الابل، فجعل المسلمون يطلبونها في كل وجه، فقال زيد بن اللصيت، وكان منافقا وهو في جماعة من الانصار، منهم عباد بن بشر بن وقش، وسلمة بن سلامة بن وقش، وأسيد بن حضير، فقال: أين يذهب هؤلاء في كل وجه ؟ قالوا: يطلبون ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضلت، قال: أفلا يخبره الله بمكانها ؟ فأنكر عليه القوم، فقالوا: قاتلك الله، يا عدو الله، نافقت. ثم أقبل عليه أسيد بن حضير فقال: والله لولا أني لا أدري ما يوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك لأنفذت خصيتك بالرمح يا عدو الله فلم خرجت معنا وهذا في نفسك ؟ قال: خرجت لأطلب من عرض الدنيا، ولعمري إن محمدا ليخبرنا بأعظم من شأن الناقة، يخبرنا عن أمر السماء. ووقعوا به جميعا، وقالوا: والله لا يكون منك سبيل أبدا، ولا يظلنا وإياك ظل أبدا، ولو علمنا ما في نفسك ما صحبتنا ساعة من نهار فوثب هاربا منهم أن يقعوا به، ونبذوا متاعه، فعمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس معه فرارا من أصحابه متعوذا به، وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما قال من السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق يسمع: " إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وقال: " ألا يخبره الله بمكانها ؟، فلعمري إن محمدا ليخبرنا بأعظم من شأن الناقة "، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، وإن الله تعالى قد أخبرني بمكانها، وإنها في هذا الشعب مقابلكم، قد تعلق زمامها بشجرة، فاعمدوا نحوها . فذهبوا فأتوا بها من حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر المنافق إليها سقط في يده، فقام سريعا إلى رفقائه الذين كانوا معه، فإذا رحله منبوذ، وإذا هم جلوس لم يقم رجل منهم من مجلسه، فقالوا له حين دنا: لا تدن منا ! فقال: أكلمكم، فدنا فقال: أنشدكم الله - وفي لفظ: أذكركم الله - هل أتى أحد منكم محمدا فأخبره بالذي قلت ؟ قالوا: لا، والله، ولا قمنا من مجلسنا، قال: فإني قد وجدت عند القوم ما تكلمت به، وتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أتي بناقته، وقال: إني قد كنت في شك من شأن محمد، فأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأني لم أسلم إلا اليوم. قالوا: فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك. فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفر له، واعترف بذنبه. قال ابن عمر: ويقال: إنه لم يزل فشلا حتى مات، وصنع مثل هذا في غزوة تبوك. سبل الهدى والرشاد
وغياب هذا الفقه يجعل السفهاء يتحكمون ويسيطرون , ترتفع أصواتهم بالنباح , ونظراتهم بالهمز والغمز , وقسماتهم بالسخرية , وهذا ما جعل عبسا الغفاري يتمنى الموت.. عَنْ زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ عَنْ عُلَيْمٍ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عَلَى سَطْحٍ مَعَنَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَزِيدُ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَبْسًا الْغِفَارِيَّ , وَالنَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الطَّاعُونِ , فَقَالَ عَبَسٌ : يَا طَاعُونُ خُذْنِي ثَلَاثًا يَقُولُهَا , فَقَالَ لَهُ عُلَيْمٌ : لِمَ تَقُولُ هَذَا ؟. أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ , فَإِنَّهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ لَا يُرَدُّ فَيُسْتَعْتَبَ ". فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :" بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا : إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ , وَكَثْرَةَ الشَّرْطِ , وَبَيْعَ الْحُكْمِ , وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ , وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ , وَنَشْئًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَهُ يُغَنِّيهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُمْ فِقْهًا .رواه أحمد
والكلمة التي معنا : قليلة بجوار كلمة حمزة لابن أم أنمار , وصغيرة بجوار شدة أسيد وكلمته وغضبته على المنافق .
وخلاصة القول : أن الكلمة تحتمل أكثر من معنى في اللغة , فليس فيها ما يصطدم مع قواميسنا العربية , بل تُوَصّف الكلمة الواقع , وتفسره تفسيرا يليق به .
وعرفيا : نراها تخدش حياء من وصف بها بعد أن نزع الله الغيرة من قلبه على حرائر أمته .
وتاريخيا : نجد التاريخ يعيد نفسه , ولكن بصورة مختلفة , فبيوت البغاء لم تعد في الهرم , أو في غيره من الشوارع التي اشتهرت به , ولكنها انتقلت إلى مكان عمل حارسها .
وفي الشريعة : نجد أن مقام النبوة كان أرفع من أن يجيب هؤلاء , ويرد عليهم , ولكن الله سخر لهم من يرد عليهم , وألهم من يجيبهم في التو والحال , وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ردهم فأقر رد الصديق على عروة , وأقر فعل المغيرة مع عروة, وأقر رد حمزة على سباع , وأقر رد أسيد على المنافق ...وهكذا.
يقول الله تعالى :" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم "
قَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَعْنَى لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ الْجَهْرُ بِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ وَمَا هُوَ الْمُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ فَلَا يَدْعُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ حَقِّي، اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ ظُلْمِي. فَهَذَا دُعَاءٌ فِي الْمُدَافَعَةِ وَهِيَ أَقَلُّ مَنَازِلِ السُّوءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمُبَاحُ لِمَنْ ظُلِمَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَإِنْ صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، فَهَذَا إِطْلَاقٌ فِي نَوْعِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَالسُّدِّيُّ: لَا بَأْسَ لِمَنْ ظُلِمَ أَنْ يَنْتَصِرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ بِمِثْلِ ظُلْمِهِ وَيَجْهَرَ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. تفسير القرطبي 6/1 ط:دار الكتب المصرية .
أيها الأحباب استخدموا فقهكم , ودربوا عليه بعضكم ليذبوا عنكم سفاهة السفهاء , فلقد تعلم أفضل جيل هذا الفقه وأجاب به من به طيش فكري , ودخن عقائدي .
نسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا , وأن يرد عنا كيد الكائدين .
الله يجازيك خير اخى ربنا يجعله فى ميزان حسناتك
ردحذفويجازيكم مثله
حذف