الهجرة ومواقف بطولة من صنع المشركين

محطات تربوية من الهجرة النبوية
المحطة الثانية: الهجرة ومواقف بطولة من صنع المشركين

عاطف أحمد علي أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قرأنا عن مواقف بطولة من صنع المسلمين في الهجرة النبوية , وطالعنا مواقف بطولة من أخلاقهم الحسنة , قرأنا عن أبي بكر الصديق , وأسماء وعائشة وعبد الله بن أبي بكر وعامر بن أبي فهيرة وعلي بن أبي طالب وأسرة آل أبي سلمة وصهيب الرومي , وغيرهم - رضي الله عنهم أجمعين- , وهم يبذلون أموالهم وأوقاتهم وأنفسهم وفلذات أكبادهم في سبيل نصرة دينهم .. وأثناء قراءتنا لمواقفهم لم نستغرب هذه المواقف لأنهم تربوا في حضانات الإسلام , وخرجوا من صوبه الكريمة الطاهرة .., ولكن أن نقرأ عن مواقف بطولة من صنع المشركين في الهجرة النبوية , ونطالع مواقف من أخلاقهم .., فهذا ما يلفت الانتباه .., ويدعونا للوقوف والملاحظة ..
إن ومضة النور مهما ارتفعت حرارتها وزهت أنوارها بجوار نور الشمس وحرارتها خافتة ضعيفة , وهكذا حالها بجوار نور القمر في ليلة التمام , أما إذا وضعتها وسط الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض فإنها تلفت الانتباه وتجذب الأبصار .. والورقة الخضراء والوردة الحمراء وسط الصحاري الشاسعة الممتدة , والجبال العالية , تلفت الانتباه , وتجذب الأبصار , أما وجودها داخل الحدائق الجميلة الخضراء المتعددة الزهور والثمار هي مثل غيرها إلا إذا تميزت بلونها أو رائحتها. وقطرة العسل وسط البحار والمحيطات المالحة تلفت الانتباه وتجذب الفم وتحرك المعدة .., أما وجودها داخل الخلايا , فهي مثل قريناتها تعلو بعلو قيمتها , وتنخفض بانخفاض جودتها .. فحال الصحابة الكرام وأدوارهم وبطولاتهم العالية , وأخلاقهم النبيلة في الهجرة النبوية مثل قطرات النحل في خلاياه , والورد في بساتينه , وومضات النور بين المصابيح. أما المواقف البطولة التي صنعها المشركون في الهجرة , فهي كنقطة العسل وسط البحار المالحة , والوردة وسط الصحاري الشاسعة والجبال المرتفعة , وومضة النور الخافتة وسط الظلام الدامس ...., فكونك تجد عفة من رجل مشرك بين قوم يرتعون في الفواحش فهذا يستحق الوقوف , أو تجد عدلا من قوم يقدسون الظلم , فهذا يدعوك لاستنباط الدروس , أو تجد أمانة وسط قوم يدمنون الخيانة فهذا يحتم عليك تعلم العبر , ..وهكذا..
1- هذا عثمان بن طلحة يعلمنا الشهامة والرجولة والنجدة والعفة والأمانة جميعا , فموقفه مع أم سلمة لا يخفى على ذي لب من المسلمين , يجدها متوجهة إلى زوجها في المدينة وحيدة فريدة في الصحراء , لا أنيس لها سوى الله , بعد أن فرق القوم بينها وبين زوجها عاما كاملا , تقول – رضي الله عنها - : مربى رجل من بنى عمومتى فرأى ما بى ورق قلبه لى ، فقال لأهلى : ألا تتركون هذه المسكينة تلحق بزوجها؟ فقالوا لى: إلحقى بزوجك إن شئت، فاسترددت ابنى وارتحلت بعيرى وخرجت أريد المدينة وما معى أحد من خلق الله. حتى إذا كنت بالتنعيم ـ قريبا من مكة ـ لقيت عثمان بن طلحة ، فسألنى إلى أين؟ قلت أريد زوجى بالمدينة! قال: وما معك أحد؟ قلت: ما معى إلا الله وابنى هذا. فأخذ بزمام البعير وهو يقول: والله مالك من مترك، وانطلق مسرعا بى.. فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا نزل محطة أناخ بى ثم تأخر عنى حتى أنزل، ثم قيد بعيرى إلى شجرة ثم ذهب بعيدا إلى شجرة أخرى فاضطجع تحتها.. حتى إذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فأعده، ثم استأخر عنى حتى أركب، فإذا استويت عليه أخذ بالزمام يقودنا، ومازلنا كذلك حتى أقدمنى المدينة، فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف قال: هنا يقيم أبو سلمة، فادخلى على بركة الله، ثم انصرف قافلا إلى مكة ...( انظر : حياة الصحابة تأليف: محمد يوسف بن محمد إلياس بن محمد إسماعيل الكاندهلوي (المتوفى: 1384هـ) حققه، وضبط نصه، وعلق عليه: الدكتور بشار عوّاد معروف , ج1 ص 435, ط : مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان , الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م) نعم الرجل عثمان فليس له مثيل بين المشركين في وقته , فمثله في عفته وشجاعته ومروءته وبطولته كمثل قطرة العسل وسط البحار المالحة , والوردة الجميلة العطرة بين الصحاري الممتدة , والمصباح المضيء بين طبقات الظلام الدامس , إن الرجل مشرك , وبالرغم من شركه أبت عليه شجاعته ومروءته وبطولته وأخلاقه أن يترك امرأة وحيدة في الصحراء بين الحيوانات المفترسة وقطاع الطريق , فصحبها حتى أوصلها إلى زوجها , لم تحدثه نفسه وهو يخلوا بها تحت جنح الظلام ليلا , أو في ساحة الترواح ظهرا أن يسارقها النظر , ولو شاء لفعل , ولكن عفته أبت عليه , وليت شبابنا اليوم يتذكر مثل هذا الموقف عندما يخلو بنساء أهل بيت جيرانه .. , ليتنا نتعلم جميعا عندما يخلوا بعضنا بزميلاته في العمل , أو بأقاربه غير المحارم في الصلة .. بل ليتنا نتعلم الشهامة والنجدة من رجل قلت النجدة والمروءة في عصره بين أقرانه , فنغيث الأرملة التي لا عائل لها , ونجيب اليتيمة التي لا راعي لها , ونستجيب لنداءات المسكينة التي لا طعام ولا كساء عندها ..(الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ) - أخرجه البخاري –
 2- وهذا أبو جهل الذي سود تاريخه بأفعاله القبيحة , حارب النبي – صلى الله عليه وسلم - , وآذى الصحابة الكرام , وسخر من الشعائر والقرآن , نجد في تاريخه أثناء هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومضة نور وسط ظلام صنعه بيده , وزهرة وسط صحراء بسطها بفعله , وقطرة عسل وسط بحار مالحة سكبها بكفره .. يقول لأبي سفيان بعد أن ضرب أسماء فأسقط قُرطها : لا تخبر أحدا بما رأيت , حتى لا يقال بأن أبا الحكم روع بنيات أبي بكر , لقد تحركت نخوته بعد فعلته , فانسابت على لسانه أسى وندما , وفي قسماته حسرة , وفي عينيه خيبة , وليت من يروع البنيات ليلا , أو يضربهن , أو يصوب رصاصه تجاه صدورهن يتعلم من هذا الكافر ... يحزنني كثيرا أن أقول لبعض المسلمين : لقد سبقكم أبو جهل في هذا الميدان بتأسفه وحسرته وندمه بعد فعلته القبيحة , وأنتم تفاخرون وتضحكون بعد جرأتكم على فعلها .. إننا نؤمن من أعماقنا بأن الرجل سبقكم في ميدان المبادئ وتأخرتم !!
3- وهؤلاء هم شباب المشركين يقفون على باب النبي – صلى الله عليه وسلم- طيلة ليلهم ينتظرون خروجه في الصباح , فيضربونه ضربة رجل واحد , العجيب والملفت أن القوم وهم شباب وطبيعة الشباب الحماسة الفائرة , لم يجرؤ أحد منهم على اقتحام البيت ليلا ويروع بنات النبي – صلى الله عليه وسلم - , إنها مبادئ تعارفوا عليها , لا ينبغي لأحد أن يخالفها .. , وليت طلاب الدنيا في بلاط السلطان يتعلم منهم بعد أن ضاعت المبادئ بينهم إذا قسناها بمبادئ المشركين في يوم الهجرة ؟ لقد ظهر لنا الفارق واتضح البون بين المبدأين .., فالمبادئ اليوم مبنية على الانتقام من كل معارض , بل من كل الدوائر المحيطة به , لقد جاء الشباب يطلبون محمدا لا عليا , يطلبون محمدا لا بناته , يطلبون محمدا لا ماله.. , لم يحطموا أساسا , ولم يسرقوا متاعا , ولم يروعوا بنتا , ولم يعتدوا على علي كرم الله وجهه.. أما اليوم فهم يطلبون زيدا من الناس , يبحثون عنه في جنح الظلام وأوقات الليل المتأخرة , يروعون البنات , ويحطمون الأساس , ويسرقون المال والمتاع , ويخطفون الأولاد , وينتهكون الأعراض ... , إنهم لم يتعلموا من إخوانهم القدامى , فتأخروا اليوم في ميدان احترام الحقوق والحرمات ..
4- وموقف المشرك وهو يستقبل الغار بعورته , وقول النبي صلى الله عليه وسلم – لأبي بكر – رضي الله عنه - : "لو رآنا ما استقبلنا بعورته " , دليل على أن العربي كان يأنف أن تظهر عورته , أو تنكشف سوءته على غيره , أين هذا من شباب أدمن الجلوس أمام المواقع الإباحية , والقنوات الفضائية , يطالع العورات , وينظر إلى الكاسيات العاريات , أين هذا من مسابقات العرايا في بلدان العرب والمسلمين ؟ بل قل : أين هذا من شواطئ العري في بلداننا العربية والإسلامية ؟ إن أعداءنا يريدوننا أن نتحول على هذه المائدة إلى حيوانات تحكمها الشهوات ولا يتحكمون فيها , وتسيطر عليهم الملذات لا يقوون على كبحها.. فهل نفطن لمخططاتهم ومكرهم ؟
 5- وفي موقفي سراقة بن مالك وعبد الله بن أريقط في الهجرة دليل على الأمانة التي تحكمت فيهما , فالأول جعلت له مائة ناقة مقابل أن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم حيا أو ميتا .., وبالفعل بحث ونقب حتى لحق بالنبي- صلى الله عليه وسلم- في الطريق , وبعد أن رأى الآيات تلو الآيات تلاشت الجوائز والمنح والأُعطيات أمام الأمانة في قلبه , فطلب الأمان , وعاد درعا يدفع بعد أن كان سهما يطلب .. , وكم بيننا اليوم من أناس تحكمت فيهم المادة حتى أصبحوا عبيدا لها , يلعق أحدهم الحذاء مقابل حفنة من المال , يبيع أمانته وصدقه وأخلاقه مقابل إرضاء ولي نعمته .. لقد كان بإمكان سراقة بعد أن يختفي عن نظر النبي وصاحبه يدل عليهما ليحصل على الجائزة الثمينة , ولكن وفاءه للعهد وبره بوعده جعله يعمي عن النبي صلى الله عليه وسلم , ويدافع عنه ويدفع الأعداء بعيدا عن طريقه .., بل قال قولته المشهورة لأبي جهل: أبا حكم والله لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه.. والثاني عبد الله بن أريقط .. , خرج دلالا ماهرا , يدل النبي وصاحبه على الطريق , فكان أمينا معهما رغم شركه وكفره , فلم يتآمر ساعة من الساعات لأن مبادئه لا تتجزأ , وأخلاقه لم تنفصل عنه , إنه كان بإمكانه أن يحصل على الجوائز تلو الجوائز لو مكر بالنبي – صلى الله عليه وسلم- وصاحبه , فأخبر القوم بمكان سيره , ومكان اختبائه .., ولكن أمانة الرجل أبت عليه , فظل وفيا للعهد , حافظا للأمانة حتى أوصلها المدينة المنورة .., إن بعض المسلمين اليوم يحملون الأمانة على أكتافهم فإذا ما تعارضت مع مصالحهم وأهوائهم طرحوها مع أول عثرة قدم , والتحفوا بالخيانة بدلا منها.. , فهلا تعلم هؤلاء من سراقة وعبد الله بن أريقط ليفوزوا بلقب الأمانة ..؟ إننا اليوم في حاجة إلى أن نقطف هذه الزهور الأخلاقية لنستنشق عطرها , ونلتقط هذه القطرات السلوكية من العسل لنغذي بها أفئدتنا , ونجمع هذه الومضات النورانية لننير بها طريقنا .., فنحن أحوج إليها منهم , لأن ديننا يأمرنا بها , وهي من قواعده الأصيلة وتعليماته النافعة الجليلة .. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " (التوبة الآية :119) , " الحياء والإيمان قرناء جميعا , فإذا رفع أحدهما رفع الآخر" (أخرجه الطبراني) , " إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء وإن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقا " , " إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات عند الله يوم القيامة، وإياكم والفحش ، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش، وإياكم والشُّح، فإنه دعا من قبلكم فاستحلوا محارمهم، وسفكوا دماءهم، وقطعوا أرحامهم) [3/323 من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا بلفظ مسلم]. وعن سلمان رضي الله تعالى عنه , قال: إن الله تعالى إذا أراد بعبد شرا أو هلكة نزع منه الحياء فلم تلقه إلا مقيتا ممقتا , فإذا كان مقيتا ممقتا نزعت منه الرحمة فلم تلقه إلا فظا غليظا , فإذا كان كذلك نزعت منه الأمانة فلم تلقه إلا خائنا مخونا , فإذا كان كذلك نزعت ربقة الإسلام من عنقه فكان لعينا ملعنا"( أخرجه أبو نعيم في الحلية , وأبو داود في سننه ) , " إن الله عز وجل ليعطى على الرفق ما لا يعطى على الخرق ، وإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير". نسأل الله أن يرزقنا أخلاقا حسنة وأفعالا حميدة ترضيه ويرضى بها عنا وتدخلنا الجنة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق