محطات تربوية من الهجرة النبوية
المحطة الثالثة:
مواقف تربوية من حياة عامر بن فهيرة
عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من المعلوم أن الهجرة النبوية إذا ذكرت ذكر أفراد بعينهم , مثل أبي بكر الصديق وأسرته , وعامر بن فهيرة , وعلي بن أبي طالب , وعبد الله بن أريقط , وسراقة بن مالك , وغيرهم .., ولقد قص علينا التاريخ أجزاء من حياتهم بعد ذلك , فأكثر مع البعض وغفل عن البعض , وممن أكثر التاريخ الحديث عنهم في الهجرة الصديق , وممن غفل التاريخ عنهم عامر بن فهيرة..
إننا إذا أردنا أن نعقد مقارنة بين الوقت الذي قضاه أبو بكر وعامر في الإسلام لا نستطيع , لأن الوقت الذي عاشه عامر في الإسلام قرابة العشر سنوات.. , حيث استشهد عامر في السنة الرابعة من الهجرة , والوقت الذي عاشه أبو بكر أكثر من ذلك بكثير , فقد عمر في الإسلام أكثر من خمس وعشرين سنة قضى جزءا منها خليفة للمسلمين .
لقد قضى عامر بن فهيرة عمره بين العهدين المكي والمدني , فقضى جزءا من حياته في مكة في الشرك , ثم أسلم مع الضعفاء وناله ما نالهم من عذاب وتضحيات
, فعذب مع بلال في حبل واحد , ثم أعتقه الصديق رضي الله عنه , وعمل في رعي الغنم .., وتعبد مع الصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم ..
ثم قام بالدور الموكل إليه والمهمة المسندة إليه في الهجرة من مكة إلى المدينة على أكمل وجه .. علم القاصي والداني دوره العظيم فيها من إخفاء آثار القوم بأرجل ماشيته , وكتابته للوحي , وحمايته للنبي صلى الله عليه وسلم ..
والمرحلة التي عاشها في المدينة قضاها بين أهل الصفة وكتاب الوحي , كان يجمع الماء للمسجد والحطب ليبيعه , كان من القراء , ثم قتل غدرا يوم بئر معونة ..
هذه حياة عامر باختصار كما جمعناها من كتب السيرة والتاريخ , هذه الحياة التي يكسوها الزهد والورع , والصفاء والخفاء , والتجرد والإخلاص .., تدعونا لاستنباط بعض الدروس والعبر التربوية :
1- فالوقت الذي قضاه عامر بن فهيرة في الإسلام يزيد على العشر سنوات , وهو وقت قليل إذا قسناه بأعمارنا الدعوية والإصلاحية , فمنا من عمره الدعوي عشرين سنة , ومنا من عمره الدعوي ثلاثين سنة , ومنا من هو أكثر من ذلك .. , فهل يا ترى نستطيع أن نعقد مقارنة بين عطاء عامر - رضي الله عنه – وعطائنا الدعوي والإصلاحي ؟ أقول : لا , لأن عامر – رضي الله عنه – استقام له الشوط , فلم يحتج إلى سوط , ولأن عامر خاف فأدلج فبلغ المنزل , ولأنه لم يؤخر جرعات الدواء عن وقتها , فلم تتمكن الأمراض الفكرية والدعوية , والجراثيم القلبية والعقلية من السيطرة عليه , فعاش مبادرا نشيطا , منتبها يقظا , أما بعضنا فالشوط لم يستقيم له فاحتاج إلى سوط يوجعه حتى يتحرك , وأخر جرعة الدواء عن وقتها فرسخ المرض وانهارت المقاومة ..
إن أعمارنا في الدعوات الإصلاحية يقاس بنشاطنا وكسلنا , بمبادراتنا وتقاعسنا , بانتباهنا وغفلتنا , بميزان الإيمان لا بعداد الأيام , بحساب الكرام لا بشهادات الميلاد .. , على ضوء ذلك نستطيع أن نحدد أعمارنا الدعوية والإصلاحية , ونعقد المقارنة بيننا وبين السابقين من الصحابة والتابعين ..
2- وحياة عامر رضي الله عنه في العهدين تعلمنا التجرد الحقيقي , فلقد عاش عامر غريبا في العهدين , لم ينافس على حطام الدنيا , ولم يجزع من شدائدها , خرج من العبودية فرعى الغنم لأبي بكر - رضي الله عنه - وهي مهنة تحتاج إلى صبر , ولما انتقل إلى المدينة كان من أضياف الإسلام – أهل الصفة – لقد صدق فيه قول الحسن البصري بعد ذلك : المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها , ولا ينافس في عزها , للناس حال وله حال , الناس منه في راحة , وهو من نفسه في تعب .
لقد عاش عامر بن فهيرة - رضي الله عنه- قانعا بما آتاه الله , لم يتطلع وهو في المحراب الدعوي إلى منصب أو إمارة في يوم من الأيام , لم يطلب أن يكون على رأس سرية , أو حاملا للواء في غزوة , أو في مقدمة جيش , أو مميزا على أقرانه في موقف .., لقد صدق فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ – رضي الله عنه - :" إِنَّ يَسِيرًا مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَادَأَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الأَخْفِيَاءَ الأَتْقِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ".(أخرجه الإمام الطبراني) , عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه "(رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة عن المقرئ) , وعن أبي أمامة - رضي الله عنه- : أن النبي - صلى الله عليه و سلم - قال : "إن أغبط الناس عندي لمؤمن خفيف , الحاذ ذو حظ من الصلاة , أحسن عبادة الله و أطاعه في السر , غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع , و كان رزقه كفافا , فصبر على ذلك ثم نفض رسول الله صلى الله عليه و سلم بإصبعه و قال : عجلت منيته و قلت بواكيه و قل تراثه"( أخرجه الحاكم في المستدرك وقال : هذا إسناد للشاميين صحيح عندهم و لم يخرجاه..)
إن عامرا - رضي الله عنه - رحل عن الدنيا ولم يأخذ من الغنيمة شيئا , فتم له أجره بإذن الله تعالى , وبعض الدعاة اليوم يأبون إلا أن يأخذوا من الغنيمة قسمهم ماديا أو معنويا , فبعضهم بجوار دعوته يتطلع إلى مكاسب أو مناصب , وبعضهم ينتظر السمعة والثناء والشهرة , ونسي هؤلاء المساكين وصية النبي – صلى الله عليه وسلم- لهم في أحاديثه, فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ غَنِيمَةً إِلاَّ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ ، وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ ، وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ" , ( أخرجه مسلم) , وفرح الداعية بمدح الناس له غنيمة , وتطلعه إلى المناصب والمكاسب الدنيوية ونيله ذلك غنيمة .. , عن شداد بن الهاد أن رجلا من الأعراب آمن برسول الله - صلى الله عليه و سلم - وقال : أهاجر معك فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه به , فلما كانت غزوة خيبر أو حنين غنم رسول الله - صلى الله عليه و سلم - شيئا فقسم وقسم له , فأعطى أصحابه ما قسم له , وكان يرعى ظهرهم , فلما جاء دفعوه إليه , فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسمه لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فأخذه , فجاءه , فقال : يا محمد ما على هذا اتبعتك , ولكني اتبعتك على أن أرمي هاهنا , وأشار إلى حلقه بسهم , فأموت , وأدخل الجنة , فقال : إن تصدق الله يصدقك فلبثوا قليلا ثم دحضوا في قتال العدو فأتي به يحمل و قد أصابه سهم حيث أشار , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أهو هو ؟ قالوا : نعم قال : صدق الله فصدقه , فكفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قدمه عليه وكان مما ظهر من صلاته عليه : اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا فأنا عليه شهيد" ( أخرجه الحاكم في المستدرك )
3- ولقد علم عامر بن فهيرة – رضي الله عنه - دعاة اليوم فنون صناعة الحياة , وذلك عندما انغمس بكليته بعد إسلامه في مصانعها المتعددة , العبادة , والدعوة , والجهاد , والأخلاق ... فكان فطنا مع مصانعها المتعددة رغم قلة الوقت الذي قضاه في الإسلام ..
إن بعض المصانع تفتح أبوابها في أوقات معينة , فتنتج نوعا معينا , بمقدار معين , لوقت محدد , فمن فطن لجودتها , وملك ثمن سلعتها , أدرك منتجها , فمصنع الصلاة يفتح أبوابه في وقت محدد , وهكذا مصنع فريضة الصيام والحج والزكاة , ومصنع الجهاد يفتح أبوابه في وقت محدد وهكذا الدعوة , فمن فطن لمنتجها , وملك ثمنه أدرك المنتج وناله الخير ..ومن تراخى لا مكان له ولا نصيب ولا حظ .. فالإسلام يوم أن فتح أبوابه وأعلن عن جودة سلعته بادر عامر بن فهيرة وأدرك منتجه , فأسلم قبل الدخول في دار الأرقم , ويوم أن أعلن المشركون الحرب على الضعفاء , ناله ما نال الصحابة من عذاب وتضحية فلم يشكوا ولم يتبرم , ويوم أن ندب لمهمة الهجرة فرح وسعد وقام بها على أكمل وجه لأنه يعلم من أعماقه أنها مصنع حياته في الدنيا والآخرة , ويوم أن دعي ليعلم الناس الإسلام ويقرأ عليهم القرآن لم يتقاعس , وهو يعلم خطورة المهمة الموكلة إليه وإلى أصحابه السبعين.. إنه يعرف قيمة التلبية وسرعة الإجابة في هذا الوقت لأنه " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " ( أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير , باب فضل الجهاد 2631 ج 3 ص 1025 ,ط 3: دار ابن كثير ، اليمامة - بيروت ، 1407 – 1987) ,وأنه " لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (الحديد الآية :10)
إن بعض الأدوات التي نستخدمها في حياتنا في مأكلنا وملبسنا تختلف جودتها من بلد إلى بلد , ومن خامة إلى خامة , ومن مصنع إلى مصنع .. , وعامر بن فهيرة – رضي الله عنه - صنعته الشدائد في مكة والمدينة ولم تصنعه العافية الدعوية في البلدين الكريمين , وإن فارقا كما بين السماء والأرض بين رجل صنعته شدائد الحياة ورجل صنعته العافية , بين رجل يصلي ويتعبد , وآخر يقارع الباطل ويجاهد المجرم ويقاتل الكافر المحارب , بين رجل فتحت له الفضائيات أبوابها , والمساجد منابرها مقابل تأييد حاكم ظالم , أو سلطان مستبد فاجر , وآخر أوصدت في وجهه أبواب الفضائيات والمجلات والإذاعات , ومنع من صعود المنابر الدعوية , اعتقل , صودرت أمواله , فتش بيته , قتل ولده , روعت زوجته وأمه.. , الأول صنعته العافية الملوثة , والثاني صنعته الشدة الصادقة.." أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ () الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" (التوبة الآيتان 19 , 20)
4- ولقد كشف الله عن صيد عامر رضي الله عنه بعد مقتله , فأعلن لمن قتله عن منزلته عند ربه , حيث خرج النور من موضع طعنه ورفع إلى السماء , أخرج بن سعد بسنده في طبقاته .. عن بن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ورجال من أهل العلم: أن عامر بن فهيرة كان من أولئك الرهط الذين قتلوا يوم بئر معونة. قال ابن شهاب فزعم عروة بن الزبير أنه قتل يومئذ فلم يوجد جسده حين دفن، قال عروة: وكانوا يرون أن الملائكة هي دفنته.
قال: أخبرنا محمد بن عمر عن من سمي من رجاله في صدر هذا الكتاب أن جبار بن سلمى الكلبي طعن عامر بن فهيرة يومئذ فأنفذه، فقال عامر: فزت والله! قال: وذهب بعامر علوا في السماء حتى ما أراه. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فإن الملائكة وارت جثته وأنزل عليين، وسأل جبار بن سلمى ما قوله فزت والله، قالوا: الجنة. قال فأسلم جبار لما رأى من أمر عامر بن فهيرة فحسن إسلامه . ( الطبقات الكبرى ج 3 ص 230 ط 1: دار صادر - بيروت: 1968 م)
إن هذه الكرامة وهذا التكريم الذي لم يحدث لأحد إلا لنبي الله عيسى عليه السلام هو صيد عامر من الحياة بجوار هجرته وجهاده ودعوته وتعبده .. , ولذلك على الدعاة أن يتعلموا من عامر – فنون صيد الكرامات والحسنات , فكم بيننا من دعاة لا يحسنون الصيد , فصيدهم يصدق فيه قول القائل : وللعصفور والباز لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز وبين ما يصطاده العصفور فرق
أو قول الشاعر أبو دلامة بعد أن رمى المهدي فاصطاد ظبيا , ورمى وزيره علي بن سليمان فاصطاد كلبا :
قد رمى المهدي ظبيا شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما كل امرئ يأكل زاده
وكم بيننا من الدعاة اليوم مَن صيدهم كصيد الذباب وعلي بن سليمان , وكم بيننا أيضا مَن صيدهم كصيد المهدي والباز ..
5- من المعلوم أن صلاح حال الإنسان في العدل وفساده في الظلم والقهر , فالمظلوم يتألم بسبب ظلم الغير له , يقول الله تعالى : "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ () وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "(التوبة الآيتان : 14 ,15) .
إن المريض لا يشعر بلذة طعام ولا شراب , ولا يهنأ براحة ولا نوم , آلامه متواصلة , وأحزانه متوالية , وبمجرد أن يرى البشريات من طبيبه , يتغير حاله , ويتبدل حزنه إلى سعادة , وكدره إلى فرح , وهكذا المصاب بمرض الظلم والقهر والطغيان , يُشفى صدره , ويسكن غضبه , وتهدأ آلامه , بعد أن يستوفي حقه من ظالمه ..
لقد ذكرنا عامر بن فهيرة – رضي الله عنه – بحقيقة شفاء الصدور المصابة بمرض الظلم والقهر والطغيان , وعلمنا كيف نزنها بموازين الآخرة , وليس بموازين الدنيا , وذلك عندما غدر به وبأصحابه القوم , واستجاشوا عليهم القبائل العربية , فأُدركوهم ببئر معونة , فلظوا ساعتها بالدعاء : اللهم أبلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا " وعندما هجم عليه أحدهم فطعنه بحربته ردد كلمات قالها من قبله أو معه أو بعده حرام بن ملحان : " فزت والله " , إنه الفوز بالمكانة والمنزلة الرفيعة , والسعادة الأبدية الخالدة , والشفاء الذي يمحوا السقم , ويزيل المرض , ويسكت الآهة , ويرسم البسمة ..
قد يرى البعض ربح الدنيا على حقيقته ربحا عندما يرونه بمراياهم المصقولة , وهكذا الخسارة , والفقر والغنى , والسعادة والشقاوة .. , أما من ينظر إلى شدائد الحياة وعافيتها بمراياه المكسورة , فقد يرى ربحها خسارة وخسارتها ربحا , وغناها فقرا وفقرها غنى , وسعادتها شقاوة وشقاوتها سعادة , ومرضها صحة وصحتها مرضا , وشدتها عافية وعافيتها شدة , وجحيمها جنة وجنتها جحيما .. وممن نظر إلى شدائد الحياة بمراياه المكسورة عامر بن فهيرة – رضي الله عنه – عندما طعنه بن كلاب , فرأى معقده في الجنة , والملائكة والأنوار بادية , والبشريات حاضرة , والحور واقفة عند رأسه : فصرخ في قاتله : فزت والله , لقد فاز بالشهادة والمجد الخالد " عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة " ( قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب , قال الشيخ الألباني : حسن صحيح , سنن الترمذي كتاب الجهاد باب فضل المرابطة 1668 ج4 ص 190 ط : دار إحياء التراث العربي – بيروت بتحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون)
فهل يقرأ دعاة اليوم شدائد الحياة , كما قرأها عامر بن فهيرة ؟ , وهل ينظرون إلى أحزانها وأكدارها وملماتها بالمرايا المكسورة كما نظر ؟ إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحوا كثيرا , وسيصبروا طويلا حتى يأتي وعد الله بالنصر أو الشهادة .
مر رجل برجل قد صلبه الحجاج، فقال: يا رب إن حلمك على الظالمين قد أضر بالمظلومين، فنام تلك الليلة، فرأى في منامه أن القيامة قد قامت، وكأنه قد دخل الجنة، فرأى ذلك المصلوب في أعلى عليين، وإذا منادٍ ينادي، حلمي على الظالمين أحلَّ المظلومين في أعلى عليين.
6- لقد ظل عامر بن فهيرة وإخوانه في خلد النبي صلى الله عليه وسلم وعقله ووجدانه ما نسيهم وما نسي ماضي المشركين السيئ معهم , فظل يقنت في صلواته على من ظلمهم من بني سليم ورعل وذكوان وعصية طيلة أربعين يوما , ودعا على المجرم القاتل عامر بن الطفيل قائلا : اللهم اكفني عامرا " يقصد بن الطفيل الذي غدر , فأصيب بمرض عضال , غدة كغدة البعير – الطاعون – حتى أصبح حبيسا في بيت امرأة , وقد ولى عنه الناس ونفروا منه خشية العدوى ففقد صوابه وخرج في يوم على فرس له فمات على ظهره , ثم باغت من قتلهم ففرق جمعهم وشتت شملهم في معارك متعددة خارج المدينة .
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسى ماضي المشركين الذين قتلوا عامرا وإخوانه , فكيف لنا أن ننسى ما فعله المجرمون على مر التاريخ بأبناء المسلمين ؟.
هل يظن اليهود أن المسلمين سينسون في يوم من الأيام ما فعلوه بهم وبأبنائهم وبنسائهم وبأموالهم على مر التأريخ في سيناء وفي فلسطين ولبنان وغير ذلك من بلاد المسلمين ؟ ........ أيظنون أننا سننسى ما فعلوه في صبرا وشاتيلا وقانا ودير ياسين وجنوب لبنان وفي غزة , أو ما فعله الأمريكان في العراق , أو ما فعله الصرب بأهلنا في البوسنة وكوسوفا..... , أيظن المحتل القاتل للمسلمين في كل مكان أننا سننسى مآسيه ؟ لا وألف لا . أيظن المضيقون على حريات الأقليات المسلمة في بلاد أوربا وغيرها أننا سننسى لهم هذا التضييق ؟ أيظن المجرم في بلادنا , أننا سننسى يوما إجرامه , وقتله لأولادنا , واغتصابه لحرائرنا , ومصادرته لأموالنا , لربما ننسى بعد بدر الفتح وبدر الخلافة ودخول الناس في الإسلام . ننسى يوم أن يعلن توبته , ويرد المظالم لأصحابها . " وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " (الشورى الآية :40) ، "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ" ( الشورى الآية : 42) .
نسأل الله أن يشفي صدورنا بنصر مبين على الظالمين والمستبدين ..
.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق