عاطف أحمد أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يقول ابن رجب الحنبلي –رحمه الله تعالى-: كَانَ رجل من أَصْحَاب ذِي النُّون يطوف فِي السكَك يبكي وينادي: أَيْن قلبِي أَيْن قلبِي , من وجد قلبِي؟ فَدخل يَوْمًا بعض السكَك فَوجدَ صَبياً يبكي وَأمه تضربه , ثمَّ أخرجته من الدَّار فأغلقت دونه , فَجعل الصَّبِي يلْتَفت يَمِيناً وَشمَالًا وَلَا يدْرِي أَيْن يذهب وَلَا أَيْن يقْصد , فَرجع إِلَى بَاب الدَّار فَوضع رَأسه على عتبته فَنَامَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ جعل يبكي وَيَقُول: يَا أُمَّاهُ من يفتح لي الْبَاب إِذا أغلقت عني بابك؟ وَمن يدنيني من نَفسه إِذا طردتيني؟ وَمن الَّذِي يؤويني بعد أَن غضِبت عَليّ؟ فرحمته أمه , فَقَامَتْ فَنَظَرت من خلل الْبَاب , فَوجدت وَلَدهَا تجْرِي الدُّمُوع على خَدّه متمعكاً فِي التُّرَاب , ففتحت الْبَاب وأخذته حَتَّى وَضعته فِي حجرها وَجعلت تقبله وَتقول: يَا قُرَّة عَيْني وعزيز نَفسِي أَنْت الَّذِي حَملتنِي على نَفسك , وَأَنت الَّذِي تعرضت لما حل بك , لَو كنت أطعتني لم يكن مني مَكْرُوهاً , فتواجد الرجل ثمَّ قَامَ وَصَاح ,وَقَالَ : قد وجدت قلبِي قد وجدت قلبِي. (شرح حديث لبيك اللهم لبيك لابن رجب الحنبلي , ص 141)
مع أول وهلة يظن البعض أني سأتحدث عن موقف الرجل الصالح الذي سرقت المعاصي قلبه , وجعلت بينه وبين ربه حاجزاً , وهذا بعيد لأن حديثي عن قلبي الذي سرقه مني لصوص الزمان
, وليست معاصي الأبدان..
إن جزاء السارق في شريعتنا معروف , وحده معلوم , فمن سرق قطعت يده , " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (المائدة الآية : 38) , وعلى المجتمع تجاه المسروق واجب , أن يبحثوا معه عن ماله , وأن يخففوا عنه مصابه , وأن يعوضوه عما فقده من باب المواساة , وعلى المؤسسات الرسمية المعنية أن تقوم بواجبها فتبحث معه عن المجرم الذي سرق ماله , فإذا أمسكت به أخذت الحق منه , وعملت على تأديبه بالتعزير أو إقامة الحد..
هذا معلوم ومتعارف في سرقة الأشياء العينية المادية , أما أن يسرق لص عضوا من أعضائنا , فهذا أمر صعب لا يفعله إلا جاحد عنيد
وهذا ما حدث من لصوص الزمان وخونة العصر فلقد سرقوا أعضائي , ومزقوا قلبي.. , وقطعوا شراييني , وأراقوا دمي..
إن إخوة كراماً خصصت لهم أجزاء من قلبي , واقتطعت لهم مساحات من صفحاته , فمنهم من سيطر على سدس قلبي , ومنهم من سيطر على ثمنه , ومنهم سيطر على ثلثه , وهذه المجموعة سيطرت على جزء , وهذه سيطرت على مساحات , حتى أصبح الأقارب في القلب كالمعارضة في المجالس النيابية , أخرج في الصباح مهنئاً , وفي الظهيرة معزياً مواسياً, ومن بعد العصر حتى ساعات متأخرة أنتقل من لقاء إلى لقاء , وفي الغد هنا لأُصلح , وهناك لأُعين منكوباً , وبعد غد أسافر لأحاضر في محافظة أخرى أو مركز آخر , وهكذا أدور يومي وأسبوعي وشهري في دوائر متكاملة من الحب الذي لا يستطيع واصف أن يصفه ولا عاد أن يحصيه..
وفجأة أثناء جريي وسعيي في دوائر حبي أتاني خبر يقين أن قطعة من قلبي نالتها رصاصة غدر هناك وأنها ستشيع غداً , فضعف ضغط قلبي وقلت ضرباته , وأغشى علي مرة تلو أخرى .., ولم أكد أفيق من صدمتي هذه حتى أتاني خبر يقين أن مجموعة من كرات دمي وحبات قلبي غيبتها أقبية السجون , بعدها بلحظات وأنا مازلت في غيبوبتي إذا بنبأ يقين أن فلاناً أصيب في بدنه بأزمة , وفلاناً فر هارباً إلى خارج الديار , فانطلقت أبحث عن فلان الذي بقي لي من شدائد الزمان , قبل أن يلحق بإخوانه في المقابر , أو الجب , ..بحثت عن تليفونه لأسمع صوته فلم أجده , سألت ولده فأبكاني حاله , سألت زوجته فقطعت نياط قلبي وشرايين بدني , بعد أن قل طعامهم , ونفد نقودهم , ولم يعرفوا عنه إلا أنه فصل من وظيفته وأن سلاماً يصل إليهم عن طريق صديق من خارج المحافظة لم يعرفوا اسمه ولا رسمه ....
فجلست تعد في الأيام والليالي بعد أن أصبح قلبي فارغاً , فلم تعد أمامي إلا صورة أستحضرها لعلها تخفف عني , أجلس لأعيش بعدهم في ليل كالنهار ونهار كالليل, أصبحت أردد بين أبنائي كالمجنون من وجد قلبي فليأتني به , ثم أصرخ فزعاً ب
الليل : أيها اللصوص ردوا إلي قلبي الذي أخذتموه مني .
لقد أصبحت أبحث عن قلبي بين أقبية السجون , وخلف أمواج البحار , ووسط الصحاري والقفار , بل بين الحين والحين أذهب إلى المقابر فلعلني أجده قد خرج ليحدثني ويذكرني بيوم من أيام حبه , وساعة من ساعات وده..
ألست في حاجة إلى مساعدتكم بعد أن سرقوا قلبي وخطفوه , وبين الأسوار الحديدية وضعوه , وفي الصحاري طاردوه , وفي الميادين والأزقة طعنوه وقتلوه؟
أسألكم بالذي وهبكم القلب ومنحكم الحب أن تردوا إلي قلبي الذي أضحكني يوم أن حزنت , والذي ذكرني يوم أن نسيت , والذي قواني يوم أن ضعفت , والذي أسعدني يوم أن شقيت, والذي أسمعني القرآن والسنة يوم أن فترت , والذي وصَلني يوم أن قطعني الناس , والذي واساني يوم أن هجروني.
ردوا إلي قلبي الذي علمني الحب يوم أن كرهت .
ردوا إلي قلبي الذي علمني يوم أن جهلت .
ردوا إلي قلبي الذي سأل عني يوم أن غبت.
ردوا إلي قلبي الذي قربني وأدناني يوم أن طردني الناس .
ردوا إلي قلبي الذي آواني يوم أن غضب علي الناس .
ردوا إلي قلبي الذي فتح لي أبوابه يوم أن غلقت كل الأبواب في وجهي.
ردوا إلي قلبي الذي علمني فنون التجرد والإخلاص .
ردوا إلي قلبي الذي علمني فنون صحبة الملائكة والأخيار من الناس .
لا تقولوا لي : أنت الذي حملت اللص على سرقته وَأَنت الَّذِي تعرضت لما حل بك لَو كنت أطعته لم يكن منه مَكْرُوها ..
لو قلتم لي ذلك : فأنتم تجهزون على البقية الباقية من قلبي المكدود , فو الله ما حملتهم على ذلك , وما حملهم على ذلك إلا حقدهم علي عاطفتي ,وحسدهم على ولائي لإخواني , ولو سرقوا قلبي كله ما أطعتهم يوماً ..
يا حبات القلب إن لم تستطيعوا رد قلبي فأبغلوه مني السلام , أبلغوه سلامي خلف الأسوار , ووراء الأمواج , وفي الصحاري والقفار , أبلغوه أني على العهد ثابت , أبلغوه أني أجلس كل أسبوع فأقرأ تفسير أحمد , وحديث محمد , وفقه منعم , وعقيدة محمود , أبلغوه أني أخرج في رحلتي الشهرية للمقابر زائراً , وفي القمر متدبراً , أبلغوه أني أقرأ وردي الذي عاهدته عليه صباحاً ومساء .., أبلغوه أني صنعت له ورداً من الدعاء في الثلث الأخير من الليل , أبلغوه أني كلما رددت حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- :" ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى " رددت معه: جسمي معي غير الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن...
اللهم اجمعنا بقلوبنا على خير
عاطف أحمد أبو زيتحار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق