عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مواقف بطولة من فقه المرأة وبصيرتها بالواقع في العهد المكي
لقد ارتفع فهم المرأة في العهد المكي , وعلا رشدها , ورأت بأم بصيرتها الأمور والأشياء على حقيقتها , بل أبصرت المآلات والمقاصد , فيما يجري ويحدث حولها من أمور الوحي والدعوة, ففي حديث بدء الوحي الذي أخرجه الإمام البخاري وسبق تخريجه في المقدمة من هذا البحث عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها - أنها قالت : أول ما بدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم , فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح , ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها , حتى جاءه الحق وهو في غار حراء , فجاءه الملك , فقال: اقرأ قال ( ما أنا بقارئ ) . قال : ( فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني , فقال : اقرأ , قلت: ما أنا بقارىء , فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني , فقال : اقرأ , فقلت: ما أنا بقارئ , فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني , فقال: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم ) ( ) ؛ فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها –فقال: ( زملوني زملوني ) , فزملوه حتى ذهب عنه الروع , فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ( لقد خشيت على نفسي ) ، فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ...؛ فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة , وكان امرءا تنصر في الجاهلية , وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب , وكان شيخا كبيرا قد عمي , فقالت له خديجة يا بن عم اسمع من ابن أخيك , فقال له ورقة :يا بن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى , فقاله له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله به على موسى – عليه السلام - يا ليتني فيها جذع ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(أومخرجي هم ؟) ؛ قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا , ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي) ( ).
إن خديجة - عليها الرحمة والرضوان - لم يغب رشدها , ولم تفتر بصيرتها , ولم تصب ببلاهة في ذهنها , بل على الفور سارعت وقرأت الموقف بعد أن شاهدت ورأت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مواقف تدل على أنه رجل غير عادي , وأن هذا ليس تلبيس شيطان , وليس حديث نفس أصابها صرع أو خلل عقلي , لقد رأت من قبل كرامات وفيوضات يجريها الله على يديه , منها السحابة وبركة التجارة , وسمعت بحديث الرهبان حوله في رحلاته التجارية , أو في مكة المكرمة, وقبل ذلك في طفولته وشبابه , وسمعت عن كرامات الله له في فترة رضاعه , ولذلك أسرعت القول بكلا نافية أن يكون هذا صرعا أو تلبيسا .., إنه الفهم والرشد الذي ألهمه الله إياها..
ومما يؤكد حسن رشدها وبصيرتها ما رواه الفاكهي في كتاب (أخبار مكة) عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أبي طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة –رضي الله عنها - فأذن له، وبعث بعده جارية يقال لها نبعة، فقال لها: انظري ما تقول له خديجة- رضي الله عنها - قالت نبعة: فرأيت عجبا، ما هو إلا أن سمعت به خديجة –رضي الله عنها- فخرجت إلى الباب فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي وأمي، والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث , فإن تكن هو فأعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي , قال : والله لئن كنت أنا هو قد احتنفت عندي مالا أضيعه أبدا , وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا..( ).
قال النووي : ( قال العلماء - رضى الله عنهم - معنى كلام خديجة - رضى الله عنها -أنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل وذكرت ضروبا من ذلك وفى هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء , وفيه مدح الانسان فى وجهه فى بعض الأحوال لمصلحة نظر , أو فيه تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره , وذكر أسباب السلامة له , وفيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة - رضى الله عنها - وجزالة رأيها وقوة نفسها وثبات قلبها وعظم فقهها( ).
إن في هذا الفعل والقول من خديجة - رضي الله عنها – فيه براعة استهلال , وحسن استقبال لزوجها المكدود الخائف , إنها الزوجة الصالحة التي تعرف كيف تمسح عن زوجها أكدار الحياة وأحزانها , كيف تعيش معه معركة الإصلاح في داخل بيتها وإن كانت بعيدة عنها خارجه .. , ولذلك فقدُ مثل هذه المرأة في المعارك الإصلاحية خسارة لا توازيها خسارة , من أجل ذلك أسمى النبي – صلى الله عليه وسلم – العام الذي توفيت فيه بعام الحزن .
إن المرأة المؤمنة بفكر زوجها تذلل وتسهل له كثيرا من الصعاب , وتحل له كثيرا من المشاكل , وتخفف عنه كثيرا من الأكدار , إنها تجعل فقره غنى , وشقاوته سعادة , وخسارته ربح , ومرضه شفاء , إنها تجمع شمله , وتمسح وتجفف دمعه , وتجعل حياته جنة , أما إذا كانت الأخرى فهي شؤم كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم - فعن الزهري عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: " لا عدوى ولا طيرة , والشؤم في ثلاث: في المرأة , والدار , والدابة "( ).
لقد افتتح الإمام البخاري كتابه بحديث عائشة – رضي الله عنها - الوارد في بدء الوحي ليُعلِم النساء على مر العصور , أنهن إذا أردن أن يكن صالحات قانتات فليتعلمن من خديجة – رضي الله عنها –
- ولقد رأينا مواقف شبيهة بموقف خديجة – رضي الله عنها – من نساء الأنصار – في المدينة فيما بعد في براعة الاستقبال , وحلاوة الذوق , وجمال الروح , فيروى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : إني مجهود , فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء ؛ ثم أرسل إلى الأخرى ، فقالت مثل ذلك ، حتى قُلن كلهُنَّ مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحقِّ ما عندي إلا ماء ؛ فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " مَن يُضيفُ هذا الليلةَ " ؟ , فقال رجل من الانصار : أنا يا رسول الله , فانطلقَ به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...؛ وفي رواية قال لامرأته : هل عندك شيء ؟ فقالت : لا ، إلا قوت صبياني ؛ قال : علّليهم بشيء إذا أرادوا العشاء ، فَنَوِّميهم ، وإذا دخل ضيفنا ، فأطفئي السراج ، وأريه أنّا نأكل , فقعدوا ، وأكل الضيفُ ، وباتا طاويين ؛ فلما أصبح غدا على النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ:"لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة " ( ) .
وفي موقف آخر لهن يرويه المحدثون في كتب السنة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما- ، فقال : " ما أخرجكما من بيتكما هذه الساعة ؟ " , قالا : الجوعُ يا رسول الله ، فقال : " وأنا ، والذي نفسي بيده ، لأخرجني الذي أخرجكما , قُوما " , فقاما معه ، فأتى رجلاً من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا وأهلاً , فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أين فلان ؟ " , قالت : ذهب يستعذب لنا الماء ، إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبيه ، ثم قال الحمد لله ، ما أحدٌ اليوم أكرم أضيافاً مني ، فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بُسر وتمر ورطب ، فقال كلوا ، وأخذ المُدية ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" إياك والحلوب " , فذبح لهم ، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق ، وشربوا ، فلما أن شبعوا وَرَوُوا قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما- :" والذي نفسي بيده لتسألُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم"( ) .
فالأولى نومت صبيانها , وأحسنت استقبال ضيفها – رسولُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم - , ولم تجزع ولم تضجر , ولم تتأفف , حتى تعجب الله من صنيعها وزوجها , والثانية ( طيبة النفس ، كريمة ، تحب الضيفان ، لم تعتذر لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن استقباله وصاحبيه ، بل استقبلتهم مرحّبة مؤهّلة ، واستبْقتْهم إلى حين وصول زوجها ، وذكرت أنه لن يغيب طويلاً فقد ذهب إلى إحدى الآبار العذبة ليأتي بماء عذبة طيّبة ، وقد حان وقت عودته ، مما يجعل الضيفان يأنسون لهذه الحفاوة فلا يغادرون .
إن حُسْنَ الاستقبال نصفُ القِرى إن لم يكن القِرى كلّه ، وهذا يذكرنا بالحديث الطويل الذي رواه البخاري رحمه الله ( ) وقد جاء فيه أن إسماعيل عليه السلام تزوج من قبيلة جرهم امرأة ، وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه , فقالت : خرج يبتغي لنا ـ وفي رواية ـ يصيد لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحنُ بشَرٍّ ، نحن في ضيق وشدّة ، وشكت إليه ، قال : فإذا جاء زوجك ، اقرَئي عليه السلام ، وقولي له : يُغيّرْ عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنّه آنسَ شيئاً فقال : هل جاءكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخٌ كذا وكذا ، فسأَلَنا عنك ، فأخبرته ، فسألني : كيف عيشنا ، فأخبرتُه أنّا في جَهد وشدّةٍ . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول : غيِّر عتبةَ بابك . قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك ، فطلَّقها ، وتزوَّج منهم أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعدُ ، فلم يجده ، فدخل على امرأته ، فسأل عنه ، قالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعةٍ . وأثنت على الله تعالى ، فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحمُ , قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماءُ . قال : اللهمَّ بارك لهم في اللحم والماء . . . قال : فإذا جاء زوجك ، فاقرئي عليه السلام ، ومريه يُثَبِّت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ، قال : هل أتاكم مِنْ أحد ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حَسَنُ الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا ، فأخبرته أنّا بخير ، قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت نعم ، يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تُثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأنت العتبَةُ ، أمرني أن أمسككِ . . . ) .
فالأولى : كانت ضيّقة النفس ، قصيرة النظر ، ضعيفة حُسن الظن بالله سبحانه وتعالى ، وامرأة كهذه تصبغ البيت بما فيها من صفات ، ولا تحسن تربية أبنائها ، ولا تريح زوجها ، وتنشر في أجواء البيت والأسرة عدم الاستقرار والبعد عن الرضا ، وتزرع فيه القلق والبؤس .
والثانية : طيبة النفس ، مطمئنة القلب ، حَسَنَةُ الظن بالله سبحانه وتعالى ، وامرأة كهذه تملأ الحياة سعادة وأملاً ورضا بقدر الله ، وتنشر في البيت الهناءَ والاستقرار ، والحبَّ والودَّ ، فينشأ أولادها نشأة طيبة ويحيَوْن حياة فيها أسس الخير ، وفضائل الشمائل ...( ).
- هذا حسن الفهم يقود سفينة الأسرة إلى النجاة والأمان , أما قبحه وسوؤه - نسأل الله السلامة – فإنه يقود إلى الفرقة والتشتت , وخير مثال في ذلك ما أخرج الإمام البخاري بسنده قال : حدثنا الحميدي حدثنا الوليد حدثنا الأوزعي قال: سألت الزهري أي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم- استعاذت منه ؟, قال أخبرني عروة عن عائشة - رضي الله عنها - : أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودنا منها , قالت: أعوذ بالله منك, فقال لها: " لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك " ( ).. , وفي رواية أخرى له عن أبي أسيد - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: " اجلسوا ها هنا " ؛ ودخل وقد أتي بالجونية , فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها دايتها حاضنة لها , فلما دخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم- , قال: " هبي نفسك لي " , قالت :وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ؟ , قال : فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن , فقالت: أعوذ بالله منك ,فقال: " قد عذت معاذ " , ثم خرج علينا , فقال: " يا أبا أسيد اكسها رازقيتين وألحقها بأهلها " ( ).
هذه امرأة شرود , كيف تحمل وحياً عن نبي الله – صلى الله عليه وسلم - ؟ أو تتلقى آية ؟ , وكيف تُعلم الصحابة – عليهم الرضوان بأحوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في بيته - ؟ وكيف , وكيف , وهذا فهمها , وإدراكها ورشدها ؟ , من أجل ذلك طلقت بلفظ الكناية ولحقت بأهلها.
إن المرأة بجوار دينها إن لم تكن واعية فاهمة مدركة جعلت المصيبة مصيبتين , ومن المشكلة مشاكل , لن تكون حلاً , بل عقدة في حياة الرجل , يصعب حلها إلا بالفراق .
وكم من امرأة صنعت أزمة اقتصادية لزوجها المكدود من لا أزمة , وكم من امرأة صنعت مشكلة اجتماعية من لا مشكلة , وكم من امرأة طلقت بسب ضيق أفقها وسوء فهمها , وبلاهة ذهنها , وتكبرها وعدم خفض جناحها..!!
إنهن كثُر في المجتمعات , وأوراقهن كثيرة في المحاكم والنيابات , ومشاكلهن تفوق الخيال بين أروقة الجلسات العرفية .. , فهل يعقلن ويتعلمن من سيدة النساء , وزوجة سيد الأنبياء – صلى الله عليه وسلم – حسن الفهم والرشد وفن وروعة الاستقبال , وحسن التبعل للزوج..؟ لو فعلن لتقدمت مجتمعاتنا وسعدت أسرنا , وفاح عطرها على العالمين ..
- وهذا موقف آخر في حسن الفهم , وقوة الرشد , ونفاذ البصيرة , وذلك عندما استأذنت السيدة أسماء – رضي الله عنها – النبي – صلى الله عليه وسلم - في خلق اجتماعي , حتى لا تتعدى أمر الله ولا أمر رسوله – صلى الله عليه وسلم -
تستأذن في لحظات لم تكن الشريعة مكتملة كالتي بين أيدينا , فلم ينزل من القرآن ساعتها إلا نذرا يسيرا , ولكن تربيتهن الإيمانية الراقية أبت عليهن أن يتصرفن أي تصرف مع غير المسلمين من حولهن إلا عن رأي ومشورة.
تقول السيدة أسماء - رضي الله عنها - بنت الصديق - رضي الله عنه - للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي تنشد التصرّف السليم ـ حين قدمت أمها عليها ، وهي كافرة ! قدمت عليَّ أمي وهي راغبة ، أفأصلُ أمي ؟ قال : " نعم صلي أمك "( ). يقول الله تعالى:" إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ "( ).
إنها تستشير وتحتكم خوفاً من أن يكون هذا الخلق خيانة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم - , في مجتمع قل فيه عدد المؤمنين , وكثُرت فيه أعين الأعداء والخائنين.
أين هذا من أقوام اكتمل الدين بين أيديهم , وملأت آياته وأحاديثه وعبره وتشريعاته أسماعهم ؟ , وهم يخافون من الاحتكام إليه كبرا , أو هوى , أو مسايرة للواقع , أو تبعية , أو خوفا من أن تنكشف سوءاتهم , وتفضح خياناتهم!
إنني أستطيع القول أن الفارق بين أسماء – رضي الله عنها – في استئذانها في خلق اجتماعي لو فعلته لما عابها التاريخ , وبين أقوام امتلأت بيوتهم ومساجدهم بالمصاحف وكتب السنة , واكتملت الشريعة بين أيديهم , ومازالوا يهربون من الاحتكام إليها في حياتهم الاجتماعية والأخلاقية والدعوية والاقتصادية والتربوية.
إن أسماء –رضي الله عنها - بفهمها ورشدها , ويقينها ضيقت المسافة بين قلبها وجوارحها فأصبحت تبصر بقلبها الأشياء من حولها , فرأت السعادة كل السعادة في الاحتكام إليها في كل شئون حياتها ؛ أما الآخرون فالمسافات شاسعة بين قلوبهم وجوارحهم , فهم يسمعون لفظ الكلام ولا يفهمون معناه .. , بسبب ما حل بقلوبهم من عقد , وبسبب الأسوار التي شيدوها من الأهواء بين سمعهم وقلوبهم فحجبت عنهم الخير .
ولذلك يصف القرآن حالهم ناعيا عليهم صنيعهم , يقول تعالى:"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" ( ).
ويقول تعالى :"وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ" ( ).
ويقول فيهم :"أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" ( ).
هذه بعض المواقف في حسن فهمها , وقوة إدراكها , ذكرت للتأكيد , وكل المواقف التي ستأتي تباعا في البحث تحت عناوين مختلفة , تدل في مجملها على ذلك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق