عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(فهمها ورشدها)
1 - تمهيد حول معنى الفهم وثماره( ).
لقد افتتحت بحثي بالفهم , فهو أساس الهناءة والسعادة , أو الشقاء والتعاسة , ولولا فهم المرأة ورشدها وبصيرتها , لقضي على المسلمين بليل في العهد المكي , وهنا أنعي على التاريخ غفلته عن مجالات حياتها المتعددة , ومحاورها المختلفة , فلم يذكر لها إلا أخبارا متناثرة في بطون الكتب وأمهاتها..
إن كلمة الفهم تدور حول معاني : الإبانة ، الإجادة ، التوضيح , التلقين , الإدراك , الفطانة , التيقظ , حسن التصور , حسن التلقي ...؛ فأفهمه الأمر: أبانه له ووضحه ؛ وفهمه الأمر: مكنه أن يفهمه ؛ وتفاهم القوم : أفهم بعضهم بعضاً ؛ وتفهم الكلام : فهمه شيئاً فشيئاً ؛ واستفهمه: سأله أن يفهمه , ويقال استفهم من فلان عن الأمر : طلب منه أن يكشف له عنه( ).
ومما يميز هذا التعريف اللغوي للفهم : أن النصوص الشرعية لا تكاد تخرج عن هذه المعاني.
يقول الله - تعالى - : ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ ( )؛﴿ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ﴾ أَيْ فهّمناه الْقَضِيَّةَ وَالْحُكُومَةَ ( )؛ ففهمنا القضية سليمان دون داود( )؛ويقول الله - تعالى - : ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾( ) , يقول العلامة أبو زهرة ( ): أكد سبحانه وتعالى ما آتاه لإبراهيم، بـ " اللام " و " قد "، والرشد هو: العلم والإدراك والنفاذ إلى الحقائق ؛ كما رأينا تعرفه لله تعالى في وسط الجهالة التي كانت غمامة على العقول منعتها من الإدراك السليم، وكيف تعرَّف في نجم فرآه قد أفل، ثم في القمر فرآه أيضا أفل، ثم رأى الشمس بازغة، فقال هذا حتى انتهى إلى الوحدانية.
هذا كله رشد وإدراك سليم انتهى إلى الإدراك الكامل لمعنى الألوهية المنزهة عن المشابهة للحوادث في أفولها وظهورها، وفي فنائها وبقائها( ) .
هذا الثراء اللغوي للكلمة وتنوع معانيها يأخذ بأيدينا إلى أن الفهم الصحيح نعمة من نعم الله على الإنسان وبه يتميز عن سائر المخلوقات .
إن من أوتي نعمة الفهم الصحيح قد أوتي خيراً كثيراً , ومن حرمها , فقد حرم الخير الكثير , يعرف الدكتور أحمد مختار عبد الحميد : سُوء الفَهْم بقوله: عدم فهمه على الوجه الصحيح , وحسنه بقوله : جودة استعداد الذِّهن للاستنباط( ).
ولذلك مراتب الفهم عند الناس مختلفة , فقد يفهم هذا من الكلمة مالا يفهمه ذاك , وقد تحمل الكلمة أكثر من معنى , فيدرك هذا منها معنى , ويدرك ثان معنيين , ويدرك ثالث جملة من المعاني ...وهكذا.
وأيضاً مراتب الفهم لدى العلماء مختلفة , فقد يفهم الأصولي من النص القرآني أو الحديث النبوي معنى لا يفهمه المحدّث , وقد يفهم المحدّث من النص ما لا يفهمه اللّغوي , وقد يفهم اللّغوي من النص ما لا يفهمه الفقيه , وقد يجتمع لأحدهم فهم الجميع؛ وقد يستطيع العالِم أن يستنبط من النص الواحد مالا يستطيع غيره أن يستنبطه, وأن يفهم معنى لا يفهمه غيره.
يقول العلامة ابن القيم - رحمه الله - في إعلام الموقعين عن رب العالمين : قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص وعن وجه الدلالة وموقعها وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله – عز وجل – ورسوله – صلى الله عليه وسلم - لا يحصيه إلا الله ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم , ولما خص سبحانه سليمان – عليه السلام - بفهم الحكومة في الحرث , وقد أثنى عليه وعلى داود – عليهما السلام - بالعلم والحكم وقد قال عمر – رضي الله عنه - لأبي موسى – رضي الله عنه - في كتابه إليه: " الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِيَ إلَيْكَ "( ) ؛ وقَال علي - رضي الله عنه - " إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ "( ) ، وَقَالَ أَبو سعيد ( ) – رضي الله عنه -: كَانَ أَبُو بَكْرٍ – رضي الله عنه -أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " ( ), ودعا النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد اللَّه بن عَبَّاس – رضي الله عنهما -:"أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ "( ).
والفرق بين الفقه والتأويل , أن الفقه هو: فهم المعنى المراد , والتأويل : إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي أخيته وأصله , وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل , فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم , وليس المراد به تأويل التعريف وتبديل المعنى , فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه والله يعلم بطلانه( )..؛ لم يكتف العلامة ابن القيم – رحمه الله - بهذه الكلمات عن نعمة الفهم بل بوب له باباً لأهميته وقيمته وأسماه : صحة الفهم وحسن القصد , وذلك أثناء شرحه لوصية عمر لأبي موسى الأشعري- رضي الله عنهما – ( ) يقول - رحمه الله - : " صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده , بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما , بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما , وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم , وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم , ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم , وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة , وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد , والحق والباطل , والهدى والضلال , والغي والرشاد , ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية , ويقطع مادته اتباع الهوى , وإيثار الدنيا وطلب محمدة الخلق وترك التقوى.
ثم يتحدث الإمام ابن القيم عن نوعين لابد منهما لمن تصدر مجالس الفُتيا يقول -رحمه الله - : ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم : أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً , والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم - في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر , فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجر , فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله – عز وجل- ورسوله – صلى الله عليه وسلم - كما توصل شاهد يوسف عليه السلام بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه ( ), وكما توصل سليمان عليه السلام بقوله: "ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما"( ) إلى معرفة عين الأم ,وكما توصل أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه - بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته: "لتخرجن الكتاب أو لنجردنك" إلى استخراج الكتاب منها ( ), وكما توصل الزبير بن العوام ( ) – رضي الله عنه - بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دلهم على كنز جبي لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: "المال كثير والعهد أقرب من ذلك"( ) , وكما توصل النعمان بن بشير( ) – رضي الله عنه - بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم , فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم , وأخبر أن هذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -( ) , ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة( ) بهذا ,ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم , ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله–صلى الله عليه وسلم -( ).
إن الفهم الصحيح منحة ربانية , وإشراقة قدسية , يقذفه الله في قلب من يجاهد في سبيل إدراكه , يُعْمِلُ فكره , ويُحرك عقله , ويُوقظ خواطره المخدرة , وفَطانته النائمة , يَجمع له مناطاته( ) ومستلزماته , فيتمكن من العلم الشرعي , وعلم الآلة , كأصول الفقه , والتفسير , والحديث , واللغة .. , مع الإيمان العميق , والتطبيق الدقيق , والإخلاص الكامل , والتجرد الشامل ..ونحو ذلك .
لقد فهم الله نبيه سليمان - عليه السلام - ووهبه هذه النعمة بعد أن أخذ بمستلزماتها , فأصبح رائداً بين أهله , قال الله - تعالى - : ﴿ فَفَهّمْناهاَ سُليْمَان ﴾ ( ) , وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أَبي هريرة – رضي الله عنه - أَن رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: " كَانَتْ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا , فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا :إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنك , وَقَالَتْ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنك , فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ –عليه السلام- , فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى , فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ –عليهما السلام-, فَأَخْبَرَتَاهُ , فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا , فَقَالَتْ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ , هُوَ ابْنُهَا , فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى , قال أبو هريرة – رضي الله عنه - : وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ , وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةَ"( ) , وإن لم يكن هذا الحديث داخلاً فيما حكته الآية لكنه من جملة ما وقع لنبي الله سليمان - عليه السلام - من نعمة الفهم التي وهبها الله له.
إن الفهم الصحيح لمقاصد الدين , وموازناته , وأولوياته .., رزق من الله تعالى , يقول الله - تعالى - في حق داود - عليه السلام - : ﴿ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ ( ) أي : أعطاه الملك , ورزقه الفهم , يقول الإمام السعدي في تفسيره: أي: منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم، ولهذا قال الله– تعالى - : ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ من العلوم الشرعية والعلوم السياسية، فجمع الله له الملك والنبوة( ).
يقول الإمام محمد أبو زهرة – رحمه الله-: والحكمة هى وضع الأمور فى مواضعها , والتدبير المحكم على وفق العلم ، فالحكمة تقتضى صفتين ذاتيتين فى الشخص : عقلاً مدركاً نافذاً , بصيراً يرى بواطن الأمور , ويتغلغل فى أعماقها ، وإرادة محكمة تجعل العمل يتلاقى مع الفكر الصحيح والإدراك السليم ، فلا يكون سلطان يعارض دواعى العقل ، وأحكام الفكر السليم ، فليس بحكيم من يبادر بالحكم على الأشياء من غير دراسة عميقة مستقصية , وليس بحكيم من يكون عمله على غير ما تقتضيه قواعد الفكر المستقيم؛ ولقد ذكر سبحانه أنه علم داود –عليه السلام- مما يشاء أى: علمه علماً كثيراً واسعاً مما شاء أن يعلمه؛ فقوله - تعالى - : ﴿ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ يشير إلى سعة العلم ، وأنه كثير متشعب لا تحده إلا مشيئة الله وإرادته ( ) ؛ وقال الله – تعالى - في حق يحي بن زكريا - عليهما السلام - : ﴿وَءَاتَيْنَـاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾( )؛ وهو الفهم عن الله – تعالى-( ).
وممنوع في شريعة الأنبياء أن يستخدموا منهج الله ووحيه في فهم مغلوط , أو تطبيق خاطئ , فمن رزق نعمة الحكمة , العظيمة النفع , الجليلة القدر , واستخدمها في غير موضعها كانت وبالاً عليه في الدنيا وعذاباً في الآخرة .
ولأن الفهم نعمة ورزق ومنحة من الله يخص به أهله وأولياءه , ذكّر الله تعالى بها نبيه عيسى - عليه السلام - , قال الله – تعالى - : ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ..﴾ ( ).
قال الحافظ ابن كثير في قوله – تعالى - : ﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ أي: الخط والفهم( ).
إن من جمع مستلزمات الفهم رزقه الله حسن القصد , فجنى ثماره , وذاق طعمه في الدنيا والآخرة , ومن ثماره :
- أنه يقود صاحبه إلى خشية الله وتقواه , يقول الله - تعالى - : ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾( ).
- ويجعل العبد الرباني يتخلص من شوائب السمعة والرياء , ويتجرد لله ويخلص له النية في كل عمل وقول .
- بل ينجو في أغلب أحواله من ألسنة الناس , قال ذو النون بن إبراهيم( ) لجعفر المتوكل( ) : يا أمير المؤمنين إن الجهل علق بنكتة أهل الفهم( ).
- يحوز خير الدارين , يقول - جل جلاله - : ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ ( ) جاء في تفسير البحر المديد : هي التفقه في الدين والتبصر في الأمور ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : من يرد الله به خيراً يفقه في الدين , ويلهمه رشده"( ) ؛ وقيل الحكمة : الإصابة في الرأي . ؛ وقيل الفهم في كتاب الله . ؛ وقيل : الفهم عن الله ﴿ وَمنْ يؤتَ الحِكْمَة ﴾ , أي :أعطيها, ﴿ فَقَد أُوتي خَيْراً كثيراً ﴾ , لأنه حاز خير الدارين , ولا شك أن من حقق العلم بالله وبأحكامه , وأتقن العمل بما أمره به , فقد صفا قلبه , وتطهر سره , فصار من أولي الألباب ,ولذلك قال عَقِبه : ﴿ وَمَا يَتَذَكّر إلا أولُوا الأَلْباب ﴾ ( ).
- ويكفيه أن يشعر بلذتها في قلبه أثناء تبليغها للناس , " ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها"( ).
- ويكفيه أن يصنع حياته ويرتدي طوق نجاته , فالعالم الرباني كلما ارتفع فهمه تعددت مصانع حياته ؛وكتب الله البقاء لكلمته , قال الإمام ولي الله الدهلوي ( )- رحمه الله تعالى- في كتابه " حجة الله البالغة " : " قيل لعصام بن يوسف( ) - رحمه الله - : إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة رحمه الله ؟ قال : لأن أبا حنيفة أوتي من الفهم ما لم نؤت فأدرك بفهمه ما لم ندرك ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم")( ).
- بل ينجو من الفتن بعلمه العميق , وفهمه الدقيق , وقصده الصحيح في الدنيا والآخرة.
- بل قل إن شئت عندما يجتمع الفهم المعتدل مع العلم الشرعي مع الخشية من الله – تعالى - والإنابة إليه والرغبة فيما عنده , مع تذوق لذة التطبيق العملي في محراب الدعوة والعبادة .., فإن بصيرته ( ) تتفتح وتنفذ فيرى مقاصد الشريعة وأولوياتها وموازناتها ماثلة أمام عينيه , فيخبر عن الله – جل جلاله - وعن رسوله – صلى الله عليه وسلم - إخبار الصادق الأمين .. قال الله - تعالى - : ﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾( ) يقول الأستاذ سيد قطب ( ): ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ؛ فتتكشف له حقائق الوجود وحقائق الحياة وحقائق الناس وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس ، ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث ، يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته ، ويجد الوضوح فيما يجري حوله ، سواء من سنة الله النافذة أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة ، ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله كأنه يقرأ من كتاب ، ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ، ويجد الراحة في باله وحاله وقاله ، ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها وفي استقبال الأحداث واستدبارها ، ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين)( ). قال الله - تعالى -: ﴿ قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴾ ( ) ، يقول الإمام القرطبي ( ) : قوله تعالى: ﴿ قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ أَيْ آيَاتٌ وَبَرَاهِينُ يُبْصَرُ بِهَا وَيُسْتَدَلُّ، جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ الدَّلَالَةُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
جَاءُوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وَآيُ ( ).
فيلاحظ مما سبق أن الفهم نعمة من أجل النعم , فمن أعطي الفهم فقد أعطي خيراً كثيراً.
أما الفهم المعوج : فهو نقمة من أقبح النقم على الملقّن والمتلقّن ( ) , والمعلم والمتعلم , يجني حامله ثماره المرة في الدنيا قبل الآخرة ..؛ فمن لبس له ملابسه أصيب بالشر , لأن شر ما يصاب به الإنسان في عقله وقلبه سوء فهمه عن الله عز وجل وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - , فيخبر عنهما عكس ما يريدانه , فيرى المعروف منكراً , والمنكر معروفاً ... والباطل حقاً والحق باطلاً , والسنة بدعة والبدعة سنة , يؤخر ما يستحق التقديم ويقدم ما يستحق التأخير , تعبد قبل أن يتزود , وأفتى قبل أن يتعلم , يرى سوء عمله وفتواه حسناً , قال الله – تعالى - :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ ( ) .
لضعف عقله , وقلة إدراكه تنكر للحق فاستحق لقب : شر دواب الأرض , يقول الله - تعالى - : ﴿ إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ ( ) , قال الإمام النيسابوري( ) قال ابن زيد( ) : هم صم القلوب وبكمها وعميها , وقرأ:﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ( ) .
ولذلك وجب على من أوتي نعمة الفهم أن يفهم غيره , وأن ينشر نعمة الله عليه يقول - تعالى - : ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾( ).
إن حاجتنا اليوم إلى عالم فاهم أكثر من حاجتنا إلى الطعام والشراب , بعد أن حرّف بعض المنتسبين إلى علماء المسلمين دينهم , واختلط فهمهم عن عمد أو غباء , واختل توازنهم الدعوي بسبب تطرفهم أو جمودهم أو غلوهم.
ولعل السر الأكبر من وراء هذا الخلل وهذا الشر الذي أصاب هؤلاء هو اقترافهم المعاصي , وأكلهم على موائد الحرام , وإتباعهم الهوى والشهوات , وتبعيتهم العمياء للأشخاص والشياطين , ومسايرتهم للواقع المقلوب , يقول الله – تعالى - : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾( ).
قال الإمام مالك ( ) للإمام الشافعي - رحمهما الله - لما اجتمع به ورأى النجابة عليه: إني أرى الله - تعالى - قد ألقى عليك نوراً , فلا تطفئه بظلمة المعصية ( ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق