عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عملها العام والاقتصادي بشكل خاص :
إن الأعمال التي قامت بها , تسبق أعمال الرجال كثرة وتنوعاً , ومن هذه الأعمال ما عد حسناً , ومنه ما عد قبيحا تأنفه الطبيعة , ولا تقبله العادة .. , ومن لا عمل لها , ومن لا تحسن العمل ورهاء خرقاء .
(فأما الورهاء فالهوجاء التي لا يتم لها عمل , وأما الخرقاء فالتي تدعى العمل ولا تحسنه , وهما بغيضتان إلى العرب جميعاً , وقديماً تحاموْهما وتواصَوا باجتنابهما مهما أوتيتا من بسطة الثراء , ودرجتا بين مهاد النعماءِ لأن الفراغ مدعاة الملل، والملل سبيل الفساد.
وفي سبيل ذلك يقول الحارث بن كعب المذْجحي( ) لبنيه - وقد جمعهم بين يديه في آخر عهده بالحياة: - إياكم والورهاءَ، فإنها أدوأ الداء، وتجنبوا الخرقاء، فإن ولدها إلى أفن يكون.
إن امرأة واحدة من قريش عرف عنها الحزن فكانت تجتلب الصوف فتغزله ثم تنقض ما تغزله , وبرغم ما كان لها من سعة العيش ودعة الحياة اتخذها العرب مثلا سائراً. كلما رأوا رجلاً رزق اليسار وحُرم حسن التصرف فيه قالوا: خرقاء وجدت صوفاً, وإليها أشاروا، وبها شبهوا؛ وهي التي جعلها الله - جل ذكره -مضرب المثل في ذلك , فقال:" ولا تكونوا كالتي نُقَضَت غَزْلها من بَعد قوة أنكاثاً"( ).
يقول عبد الله العفيفي الباجوري (المتوفى: 1364هـ): لذلك لم يكن بدعاً أن تأبى ابنة أوس بن حارثة على نفسها أن تكون زوجاً للحارث بن عوف لأنها لا عمل لها، فهي لا كفاية لها، وهي التي ستحتمل من دار سيد العرب إلى دار سيد العرب!.
تلك أثارة من البيان بما كان للمرأة يومذاك من داعية إلى العمل.
فأما ذلك العمل فعلى نوعين:
نوع شامل ينضوي تحته النساء جميعاً وفيهن المدللة، والسرية السنية، قضاء
للواجب، ودافعاً للملل، وتفادياً من سوء الأحدوثة, وآخر يتخذنه مجلبَة للرزق، ومَعْدَاة على الحاجة، وعونا على الزمن، ودفعاً لسؤال اللئيم.
فمن الأول:
أ - أُسْوُ الجراح، وشد العظام، وحياطة الدم دون النزيف, ونفاذهن في ذلك شبيه بنفاذ الرجال في أساليب القتال، ومقارعة الأبطال، لحاجتهن إليه إذا اتقدت الحرب، واشتجرت السيوف، ونفذت الرماح إلى أعطاف الصدور, فهنالك يغتمرن الموقعة حاملات أداوى الماء، وإلى جانب كل منهن ما تحتاج إليه الجراح من لفائف وجبائر وما سوى ذلك.., وهن يسمَين لذلك بالأواسي , وفيهن يقول قيس بن الخطيم وقد طعن عدوّة طعنة منفسحة الجوانب جمة الشعاب:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفَذٌ لولا الشعاع أضاءها
وقد انبلج صبح الإسلام على كرائم حسيبات رافقن الغزاة الفاتحين مسعفات آسيات , فكن في المحل الأمكن من نفوس المسلمين جميعاً, ولنا إليهن عودة في الكلام على المرأة المسلمة إن شاء الله.
ب - غزل أصواف الغنم وأوبار الإبل, وذلك مُسْلاَتُهُنَّ وأداة لهوهن, ومن أمثالهن في ذلك: نعْم لَهْوُ الحُرَّة المغْزَل..( ).
ج - الضرب على المعَازف من دفوف وطبول وصنوج ومزاهر ومزامير وطنابير وأشباهها, بذلك كن يلهون في أفنيتهن أيام مواسمهن ومجامعهن وبذلك كن يخرجن مبتهجات لملاقاة بطل مظفر أو عند نبوغ شاعر مبين, وقد خرج نساءُ بني النجار وولائدْهنّ للقاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم- عازفات على المزاهر صادحات متغنيات...
على أن الغناء من حيث هو فنٌ ومرتزق لم يكن في شيء من نساءِ العرب, بل كان صناعة موقوفة على القَيان، وهن اللواتي يُجْتَلَبْن من أطراف بلاد الفرس والروم, وأول من شد بالغناء في زعم العرب قيْنتان لمعاوية بن بكر أحد العماليق الأول تدعيان بالجرادتين ثم ذاع الغناء على أثرهما بين القيان لأنهن كن يغنين الشعر العربي بالألحان الفارسية واليونانية فيكون له في أسماع العرب تأثير لا يناله الوصف( ).
أما عن طعامها في منزلها فهو أمس الأعمال بالمرأة وهو متنوع كثير , ومن ذلك: اللبن والتمر والبر والشعير والعسل والسكر والأرزُ والزبد واللحم والزيت والشحم والسمن.
وأشمل مطاعمها الثريد والحيْس وهو من التمر يغلى مع اللبن والسمن ثم يدهك بعضه ببعض, وقد يضاف إليه بعد ذلك السَّويق.
ولهم فيما عدا هذين مطاعم مألوفة, منها:
الفالوذج: وكان عبد الله بن جدعان القُرشي قد أكله على مائدة كسرى فلما بلغ من نفسه سأل فقيل له هو لباب البر يُلبَكُ مع العسل فابتاع غلاماً فارسياً وقدم به مكة فطعم بها الفالوذج ومن هناك ذاع بين العرب.
والسَّخية: وهي متخذة من الدقيق دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء, وأكثر ما عرفت عند قريش, وأشدّ ما يألفونها عند جهد وشدة الأزمات وكانوا يعيرون بها حتى سميت قريش في موطن التعريض والتنابز بالألقاب بالسخية.
قال حسان بن ثابت يهجو قريشاً:
زعمت سخية أن ستغلب ربها ... وليغلَبَّن مُغالب الغلاب( ).
والبريك: وهو الرطب يؤكل بالزبد أو السمن.
والحزيرة: وهي أن ينصب القدر بلحم يقطع صغاراً على ماء كثير نضج ذر عليه الدقيق فإن لم يكن لحم فهو عصيدة.
والربيكة: وهي التمر بالسمن والأقِط فيؤكل وربما صب عليه الماء فشرب , وفي المثل: غَرْثان فاربكوا له ( ), وذلك أن رجلا قدم على أهله وهو جائع عطشان فبشر بغلام وأتوه به , فقال: والله ما أدري أآكله أم أشربه , فقالت امرأته: غرثان فاربكوا له, فلما طعم وشرب , قال: كيف الطلا وأمُّه؟.
والبسيسة: وهي الدقيق أو السويق يْلتُ بالسمن أو الزبد.
والفَريقة: وهي شيء يعمل من البرَّ ويخلط فيه أشياء للنُّفساء.
ومما يصنع للنَفساء أيضا
الفُؤارةَ: وهي الحلبة تطبخ بالتمر.
والحريرة: الحساء من الدَسم والدقيق.
والبَهَط: وهو من الأرز يطبخ باللبن والسَّمن.
والمتتبع لمعاجم اللغة يستوقفه كثير من هذه المطاعم.., وهي على امتزاج موادها بسيطة هينة لا تعنتُ صانعتها ولا تُثقل طاعمها( ).
وأما أعمال الارتزاق فالمرأة فيها قسيمة الرجل وشهرتها فيها تكاد تتمشى مع شهرته.
فهم يقولون عن رُدَيْنة أنها صانعة رماح بالبحرين, وإليها تنسب الرماح الردينية وهي أكرم الرماح جوهراً وأسرعها نفاذاً وأمنعها على اغتماز.
وكانت السيدة خديجة رضى الله عنها على نُبلها وسناء شرفها ذات متاجر واسعة ينتقل بها أتباعها بين الحجاز والشام. ومثلها في معاناة التجارة هند بنت عُتبة زوج أبي سفيان ابن حرب سرِى قريش وثريها.
وهنالك أعمال يتناولها ذوات الخصاصة من النساء دفعاً للحاجة واستدفاعاً لذل
السؤال.
ومن ذلك جمع الكمأة من الأودية وبيعها؛ ودبغ الجلود؛ وتنميق الحصير وانتجاع الأسواق؛ وارتياد مختلف الأحياء؛ لابتياع التمر والعسل والسّمِن؛ أو بيعها؛ أو استبدالها بأمثالها؛ واعتراض الركبان في مغداهم ورواحهم بالقُدُور والأدَم يبعْنها عليهم؛ والطواف على الفتيان والفتيات بالعطر يُطَيبْنهم به؛ والنداء في الأحياء بين النساء بالخرز لتحلية الثياب وبالعقود والدمالج والقرِطَةِ وودعات الأطفال وهي عقودهم من الودع.
ومن النساء من اتخذن النياحة على الموتى عملا ومهنة, ومن أمثال العرب في ذلك : ليست النائحة الثّكْلَى كالمستأجرة( ).
ومنهن من همهّن تَعَرفُ الغيب وكشف حجب المستقبل, ولهن في ذلك وسائل, منها زجر الطير, وذلك أن تضرب الطير بحصاة , أو تصبح به فيطير , فإن كان ما تراه منه مَيامِنه فهو سانح وإن أراها مياسره فهو بارح ,وأكثر العرب يتفاءلون بالسانح ويتشاءمون بالبارح, قال ذو الرُّمة:
خَلِيلىّ لا لاقيتُما ما حييتما ... من الطير الا السانحات وأسعدا( ).
ومنهم من يتفاءلون بالبارح ويتشاءمون بالسانح, قال الأعشى:
أجارَهما بِشْرٌ من الموت بعدما ... جرى لهما طير السنيح بأَشأَم( ).
وشبيه بالطير عند العرب الظباء فهي تزجر كما تزجر. غير أن لهذه قوماً؛ ولتلك آخرين.
ومنها الطرق بالحصى, وذلك أن تضرب المرأة على الرمال بالحصى وتخط عليها خطوطاً متعارضة؛ ثم تلقى على من بين يديها ما ينم عنه ذلك النظام من كوامن السر وخفيات الأمور. وهاتان الصناعتان وإن آمن بهما دَهماءُ العرب وعامّتهم فقد سخر بهما عقلاؤهم وذوو آرائهم. وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع( ).
ومنها الكهانة والعرافة, وهما آثر علوم القوم؛ وأنفذها في نفوسهم؛ وأجلبُها لتصديقهم وإقرارهم؛ ولهما القول الفصل في حكومتهم وخصوماتهم, وهم يقولون
إن مرجع هذين العلمين إلى الملائكة لأن رفاق الكهان والعرافين من الجن يعلو بعضهم بعضاً حتى يقاربوا السماء فيسترقوا السمع أن مما يتحدث به سكانها، والكهنة والعرافة كلمتان تكادان تترادفان, إلا أن من اللغويين من فرّق بينهما يأت الكهانة علم إدراك الماضي، والعرافة علم إدراك المستقبل.
وهذان العلمان وإن ادعاهما الرجال والنساء على سواء فإن جمهور العرب يرى
أن النساء فيهما أعمق، وأن أخبارهن أصدق، ورفاقهن من الجن أدق وأوثق( ).
وهنالك المراضع , وكان نساءٌ من البادية يأتين المدائن والقرى مِلاَءَ الأثداءِ فَيؤُبْن بولدان الحَضَر يُرْضعنهم؛ ويتعهدن منابتهم؛ بين ملاعب البدو؛ ومضارب الخيام.
وكانوا يختارون المُرضع في نفسها وعشيرتها فأيهن كانت أسمح خُلُقاً؛ وأقوم خَلْقاً؛ وأبْيَنَ بياناً, وأعزَّ نفراً، فهي الظافرة السابقة.
وكان من شيم العرب وأخلاقهم إذا ولد لهم ولد أن يلتمسوا له مرضعة في غير قبيلتهم ليكون أنجب للولد وأفصح له, ومكن أجل ذلك دفع النعمان بن المنذر بابنه إلى بني مرة ليُسترضع فيهم فأرضعته سلمى بنت الحارث بن ظالم.
وكان رسول الله -صلى الله عليه- يُرجع فصاحته المُعجزة إلى منبته في قريش واسترضاعه في بني سعد وهو الذي يقول: "أنا أعْرَبُكُم وُلدت في قريش واستُرضعت في بني سعد"( ). وقال له أبو بكر- رضي الله عنه- : ما رأيت أفصح منك يا رسول الله..!! فقال: "ما يمنعني! وُلدت في قريش وأُرضعت في بني سعد"( ).
وفي حديث حليمة بنت أبي ذؤيب مرضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تجد خبر المراضع وخروجهن إلى قرى العرب يبتغون المآب بأطفالهم.
قالت: خرجت في نسوة من بني سعد عشرة يطلْبن الرُّضعاء، في سنة شَهْباء، على أتان قمراءَ، معنا شارِف ما تبضُّ، وما كنا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا، ما في ثدي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، حتى قدمنا مكة, فما منا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فتأباه إذا قيل لها يتيم وذلك أنَّا إنما نرجو من أبي الصبى، فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده؟ فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعاً غيري, فلما أجمعنا
الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي: ولم آخذ رضيعاً والله لأذهبن إلى ذلك الرضيع فلآخذنه, قال: لا عليك، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته ( ).
وفي حديث أخر أَن حليمة قالت: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بني سعد، قال: ما اسمك؟ قلت: حليمة، فتبسم عبد المطلب وقال: بَخٍ بخٍ سعد وحلم، خصلتان فيهما خير الدهر، وعزَّ الأبد، يا حليمة إن عندي غلاما يتيماً، وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلنه، وقلن ما عند اليتيم من الخير؟ إنما نلتمس الكرامة من الآباء، فهل لك أن ترضعيه، فعسى أن تسعدي به؟ فقلت: ألا أنظرني حتى أشاور صاحبي؟ فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته، فكأن الله قذف في قلبه فرحاً وسروراً فقال لي يا حليمة خذيه. فرجعت إلى عبد المطلب فوجدته قاعداً ينتظراني فقلت: هلم الصبيَّ. فاستهَلَّ وجهه فرحاً. فأخذني وأدخلني إلى بيت آمنة فقالت لي. أهلاً وسهلا وأدخلني في البيت الذي فيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مُدْرَج في صوف أبيضَ من اللبن، وتحته حريرة خضراء، راقد على قفاه يغط، تفوح منه رائحة المسك، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكاً وفتح عينيه إلىَّ فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماءِ وأنا أنظر إليه. فقبَّلته بين عينيه وأخذته( ).
والعرب يأبون أن تؤجر الحسيبات منهن على الرضاع, ويقولون في ذلك: تجوعُ الحرة ولا تأكل بثدييها( ).
على أن هذه الصناعات وإن آذن بعضها باتضاع في منزلته وهبوط في مادته فليس منها ما يؤذن بضَعَة في الخُلق, ولا ثَلمة في العقل، ولا ذلة في الحياة وإن كان شريفاتُ العرب وربات الحسب منهن يتعالين عن الارتزاق بالصناعة فلم يتجاوزن بذلك حد الإدلال بالعز، والمباهات بالغنى, فأما شرف النفس ونقاء العرض وصدق القول، وفرط الإباء، فهن فيها على سواء، وبين يدينا حديث عن امرأة تبيع الخرز بالبادية, وتلك المرأة وإن تأخر بها الزمن إلى أول العهد الإسلامي فإن في عراقة بداوتها ما يلحقها بالجاهليات, وقَلَّ من نساء الأعراب من غيَّرها الإسلام في طبع أو عادة أو خُلُق.
أما الحديث فقد رواه رُسْتَم العَبْديّ قال: خرجت من مكة زائراً لقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جَويَرية تسوق بعيراً وتترنم بصوت حلو بهذا الشعر:
فيا أيها البيت الذي حِيلَ دونه ... بنا أنت من بيت وأهلُك من أهل
بنا أنت من بيت دخولك لذة ... وظلك لو يُسْطاع بالبارد السهل
ثلاثة أبيات فبيت أُحبه ... وبيتان ليسا من هواي ولا شكلي
فقلت لمن هذا الشعر يا جُويرية؟ فقالت: أما ترى تلك الكَوَّة التي عليها الحمراءُ قلت: أراها, قالت: من هناك نجم الشعر, فقلت: أفحَيٌّ قائله؟ قالت هيهات! لو أن لميت أن يرجع لطول غيبة كان ذلك!. فأعجبني فصاحة لسانها، ورقة ألفاظها. فقلت ألك أبوان؟ فقالت: فقدت أكبرهما وأكثرهما وأجلَّهما، ولي أم, قلت: فأين أمك قالت: منك بمرأى ومسمع, وإذا امرأة تبيع الخرز على ظهر الريق بالجُحْفة, ثم قالت: ياأم، شأْنك، فاستمعي من عمي ما يلقي إليك, فقالت: حياك الله هِيِه، هل من جائية بخير؟ قلت: هذه بُنَيَّتك؟ قالت: كذا كان أبوها يقول! قلت أتزوجينها؟ قالت: لعلة ما رغبت فبها! فوالله ما لها جمال، ولا لها مال, قلت: لحلاوة لسانها، وحسن عقلها, قالت: أُّينا أمْلك هي أم أنا؟ قلت: هي قالت: إياها فخاطب! قلت: تستحي أن تجيب إلى مثل هذا, قالت: ما هذا عندها، أنا أخبرُ بها, فقلت: يا جارية، أما تسمعين ما تقول أُمك, قالت: أسمع, قلت: ما عندك؟ قلت بحسبك أن قلت تستحي في مثل هذا! فإذا كنتُ من شيء فلم أفعله؟!. . . قالت ذلك ثم اعتزمت في إبائها وانصرفت( ).
وشبيه هذا الحديث وما ضمَّ من صراحة في الرأْي، ومجانبة للكلفة، وحسن نسق في الكلام، بما أسلفنا من أحاديث ذوات الشرف والسنا من النساء, وفي ذلك وأمثاله ما يدلك على أن الدم العربي يتدفق إلى تلك القلوب من معين واحد، ويجري إلى غاية واحدة( ).
وبعد فإن لأولئك النساء على ما بينهن من تباين في العمل، وتناءٍ في الحالات عملاً عامَّا، يجتمعن إليه، ويشتركن فيه, ذلك هو اقتياد مشاعر الرجال وتصريف أزمَّتها، بما أوتين من نفاذ في الرأْي، وسعة في الحيلة, وقوة في الأسلوب لا لرجالهن وأبنائهن فَحسب, بل للقوم جميعاً: إن عصفت برؤوسهم عاصفة الشر واحتكمت بنفوسهم الحمية: حمية الجاهلية، سكَّن الثائر وأطفأْن النائرة, وإن بردت دماؤهم، وخَمَدت عزائمهم، وقَرّوا على الذل، وأغضْوا على القذى، هْجِن أشجانهم، وابتعثن أضغانهم، ورمينهم بكلمات دونها حَر الطعان، ووخز السنان. فهي ركن الأمة، وعماد البلاد، إن رجفت بها الأرض ومادت بأطرافها الحادثات.
ولقد أخذ الربيع بن زياد العامري درع قيس بن زهير العبسي وغصبه إيّاها وأبى
أن يعيدها وكلاهما سيد قومه, وبرغم ما بينهم من المصاهرة استحكمت حلقات الخلاف بينهما، وقام كل يستصرخ قومه. وكاد السيف يكون حكماً بين الحَّيين لولا كلمات من امرأتين حسمت الجرح، ورأيت الصدع، وردت إلى ذي الحق حقه.
فأما أولاهما ففاطمة أم الربيع , عرض لها قيس في طريقها وهي على راحلتها في مسير لها, فأراد أن يتخذها رهينة بدرعة, فقالت له: أين عزب عنك عقلك يا قيس؟ أترى بنى زياد مصالحيك وقد ذهبت بأُمهم يميناً وشمالا , وقال الناس ما قالوا وشاؤا؟ وإنَّحَسْبك من شّرٍ سماعهُ, فأخجل ذلك القول قيساً وتركها وهو يفكر في أمره.
وأما الثانية فالجُمانة بنت قيس، قالت لأبيها لما شَرق ما بينه وبين الربيع؛ دعني أناظر جدي، فإن صلح الأمر بينكما وإلا كنت من وراء رأيك, فأذن لها فأتت الربيع فقالت: إذا كان قيس أبى فإنك يا ربيع جدي، وما يجب له من حق الأبوة علَّى كالذي يجب من حق النبوة لي, والرأي الصريح تبعثه العناية، وتجلى عن محضه النصيحة، إنك قد ظلمت قيساً بأخذ درعه، وأجد مكافأته إياك سوء عزمه، والمعارض منتصر، والبادي أظلم، وليس قيس ممن يخوَّف بالوعيد، ولا يردعه التهديد, فلا تركنن إلى منابذته، فالحزم في متاركته، والحرب متلفة للعباد، ذهّابه بالطارف والتلاد، والسلم أرخى للبال، وأبقى لأنفس الرجال وبحقّ أقول لقد صدعت بحكم، وما يدفع قولي إلا غير ذي فهم. ثم أنشأت تقول:
أبي لا يرى أن يترك الدهَر درعهَ ... وجدي يرى أن يأْخذ الدرع من أبي
فرأْى أبي رأْي البخيل بماله ... وشيمة جدي شيمة الخائف الأبي
ولعمري لقد صدع الرجل بقوله ابنته. وكان ذلك فصل الخطاب( ).
ولما خرجت قريش إلى أحد لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج معهن نساؤهم يحملون الدفوف ويبكين على أصواتها المشجيات قتلى بدر فيوقدن بذلك نار الثأر في قلوب الرجال.
ثم لما التقى الجيشان خاض المسلمون في أحشاء قريش، فانخلعت شُعيب قلوبهم وانحلت عُقد صفوفهم، وطرح لواؤهم تحت أقدامهم، فلم يقدم رجل على حمله، حتى كانت عَمْرة بنت علقمة هي التي أخذته فرفعته. فاجتمعت قريش حولها وهنالك أخذت هند بنت عتبة ومن حولها من نساء قومها يتغنين بالمُقيم المُقعد من الشعر. وكان من غنائهن:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
إلى آخر الأبيات التي أسلفناها في يوم تحلاق اللمم. ويقلن أيضاً:
وَيْهاً بنى عبد الدار ... وَيْهاً حُمَاة الديار
ضربا بكل بَتَّار
فكان ذلك أشد عليهم من فتكات السيوف, فانقلبوا يقاتلون المسلمين حتى ظفروا بهم( ).
أما بعد فذلك عمل المرأة في بيتها، وبين عشيرتها، وفي مادة الحياة ومعناها , أفلا ترها في عامة ما تقصده وتعمد إليه مَفَيض الخير، ومعين الأمل، وعتاد البيت، وَعِماد البلاد؟( ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق