الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً..؛ وبعد..
فلقد كتبت مادحاً التصوف الإسلامي في يوم من الأيام على صفحتي الشخصية فجاءتني
التعليقات من أحبابي الذين أتوسم فيهم الخير بين مشيد بها ومهاجم لها ومستغرب منها,
وللجميع أقول: لقد عشت حياتي مع والدي عليه رحمة الله الشيخ الرفاعي الزاهد الورع
الذي عاش طيلة حياته متصوفاً, وأشهد الله أنني ما رأيت منه إلا خيراً وما أرشدني
إلا إلى النور, وما علمني إلا الحق, وما أطعمني إلا حلالاً, وكثيراً ما كان يصحبني
معه إلى المسجد وحلقات الذكر وأنا صغير, فتربيت على حب المساجد وعشق محبيها وعلى
حلقات الذكر بمعناها ومفهومها الشامل, وعلى حب آل البيت وأولياء الله الصالحين,
حتى
كبرت والتحقت بالأزهر الشريف فأخذ بيدي ودفعني إليه دفعاً, وقادني ومن معه من
أحبابه إلى الإمامة والخطابة فكنت إماماً وخطيباً وأنا في الصف الثاني الإعدادي..
فلما كانت مرحلة الجامعة انشغلت بالدراسة والانتقال من كلية أصول الدين إلى كلية
الدراسات رجاء أن أعين معيداً بها, فلما انشغلت باتحاد الطلاب والسفر هنا وهناك
نسيت مهمتي التي انتقلت من أجلها, وكان قدر الله فوق كل شيء, ففاتني التعين معيداً
وعينت إماماً وخطيباً بعد التخرج مباشرة, وبعدها التحقت بالدراسات العليا, ثم مرحلة
البحث العلمي (الماجستير والدكتوراه) التي أخذت بيدي إلى الاطلاع الموسع عن التصوف
في بلاد المشرق والمغرب, وهذه المرحلة ذكرتني بما كنت فيه, وما تربيت عليه, فقادتني
إلى البحث عن شيخ بعد والدي يلقنني التصوف كما لقنني إياه والدي عليه رحمة الله
ويعيد إلي ذاكرتي التي سلبت مني فترة, فوجدت من الخير ما تفرح بحمله الجبال الشم,
فالتقيت هنا شيخا وهناك أشياخ, وما زلت أتعلم على يد هؤلاء الكرام, وأبحث بين أقبية
الأزهر وحول مآذن آل البيت الكرام عن هؤلاء الذين يحملون هذا العلم.. وإنني كل يوم
أتعلم فيه جديداً على يد مشايخي الكرام أزداد يقيناً بأن التصوف الإسلامي مدرسة
فكرية راقية, ويزداد يقيني كلما اطلعت على تراثه الضخم في طول البلاد وعرضها,
وعقيدتي فيه أنه سراج افتري عليه من قبل الكثير ليظلم ولا يضيئ . ومن خلال هذه
التجربة طيلة هذه السنوات أستطيع القول: - أن أكثر الذين ينكرون علي قولي هذا في
التصوف الإسلامي, إنما ينكرون الاسم فقط, فهناك أناس لا يطيقون أن يسمعوا اسم تصوف
وطرق صوفية, وذلك بسبب الرسائل السلبية المسيطرة على أفكارهم وعقولهم, ولو أنهم
طالعوا ما كتب عن التصوف بتجرد لخرجوا إلى النور وأبصروا الحقيقة؛ ولهؤلاء أقول على
رسلكم أيها المتحمسون المتعجلون, اخلعوا منظاركم الأسود تروا النور, فهذا التاريخ
القديم والحديث بيني وبينكم إنه لم ينكر خلال العصور المتقدمة أو المتأخرة اسم
التصوف أحد من الناس لأنه اصطلاح على علم كعلم النحو والصرف والبديع والمعاني
والفقه والحديث وغير ذلك, ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقول العلماء, وحتى في عصرنا
هذا توجد فتاوى ابن تيمية خرج منها مجلدان تحت اسم التصوف والأخلاق ولم أر على ذلك
إنكاراً لقوله من أحد, فأرجو التأني في الإنكار على قضية علمية ثابتة لا مبرر
للإنكار فيها أصلاً, إذ ما مبرر الإنكار على اسم مباح أطلق على علم من العلوم حتى
أصبح علماً عليه, على هذا تعارف العلماء على مر التاريخ القديم والحديث, ولم ينكر
ذلك إلا ثلة ذات فهم معوج غالي, لم يطالعوا شيئاً من ذلك التراث الضخم المنثور في
كل مكتبات الدنيا, فإذا تجاوزنا هذه النقطة وينبغي تجاوزها فإن المضمون هو الذي
ينبغي أن يكون محل النقاش, فليكن همنا هو الوصول إلى الحق والحقيقة في المضمون أكثر
من مناقشة في جانب لا يترتب على النقاش فيه أي طائل أو أي ثمرة. - إن من سلك هذا
الطريق على أصول الكتاب والسنة ومذاهب أهل الحق فإنه يعصمه من الشطط الثقافي والغلو
الفكري والتشدد الديني والتفريط العقائدي؛ قال أبو سليمان الداراني رحمه الله أكبر
أعلام الصوفية في عصره: ربما وقعت النكتة من كلام القوم في قلبي فلا أقبلها إلا
بشاهدي عدل من الكتاب والسنة لأن الله عز وجل ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم
يضمنها لي فيما سوى ذلك؛ ومن هنا ندرك خطأ بعض من سلك هذا الطريق الذي يريد أن يجعل
كل ما قاله أئمة التصوف في كتبهم معصوماً كعصمة الكتاب والسنة, إن أمثال هؤلاء لا
فارق بينهم وبين الغلاة الذين غالوا في أحبارهم ورهبانهم, فإن كان هذا رأينا في
أمثال هؤلاء الغلاة فإن رأينا كذلك أشد في شأن قطاع الطرق الذين يرفضون علم التصوف
وما فيه لمجرد أن وجد خطأ هنا أو هناك, فهم يقابلون خطأ بخطأ ويتصرفون برد فعل
انفعالي غير عقلاني ولا متزن ولا راشد.. - إن ولوج طريق التصوف والسير فيه على
بصيرة يعصم من الانجراف في تيار الغلو أو في التيار المعادي على غير بصيرة؛ والسير
الروحي في طرق التصوف مطالب به كل إنسان مسلم لتصحيح الوجهة والقلب وزكاة النفس,
وإن كان العموم مطالب به؛ فالانشغال به الزامي في حق الدعاة وبالأخص خريجي المعاهد
الشرعية والكليات الأزهرية قبل الخوض في غمار الدعوة والنزول إلى الناس, وطرق أبواب
قلوبهم, ومخاطبتهم من فوق منابر الدعوة وشرفات الفتوى, وعلى هؤلاء واجب تصحيح
المفاهيم المغلوطة عن التصوف وطرقه كما صححها الشيخ سعيد الكردي النقشبندي في
تركيا, والشيخ الصوفي شامل النقشبندي في تركستان, والشيخ الصوفي الفاروقي المجددي
في الهند, والسنوسيين في ليبيا, والدراويش في السودان, كل هؤلاء حملوا التصوف
الروحي بشموله وتمامه وكماله فحمله عنهم عموم الناس في هذه البلدان عن قناعة. - إن
أكثر من تسعين بالمائة من علماء الأمة الإسلامية طيلة قرونها المنصرمة لهم صلة
بالتصوف وطرقه ومريديه ومشايخه بشكل مباشر أو غير مباشر, بالاشتغال فيه أو بالتلمذة
على أهله أو بالصلة بهم أو بالثقة فيهم أو بالانتساب الاسمي لهم أو لمن تتلمذ عليهم
ولا زال التصوف وأهله حتى الآن هم الذين يصلون إلى بيئات ومناطق لا يصل إليها
غيرهم, فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا الأمر وحده كاف لأن يعطي المبرر لإزاحة الأتربة
عن عقول البعض الذين يرون في التصوف خبلاً, وما هو بخبل وإنما الخبل في تربيتهم
ونقصان فكرهم, وقلة ثقافتهم, فلا يكفي أن تذكر الخطأ في شيء وإنما عليك أن تبين
الصواب فيه, ولا يكفي أن تهدم بل عليك أن تبني, وعليك دائماً أن تقدم البديل الصالح
للمبدل عنه إذا كان ما أنت فيه يستحيل الاستغناء عنه أو التفريط فيه أو تجاهله. -
إن هذا العصر يموج بالشهوات التي تذهب العقول, والنزوات التي تقتل الأفكار وتحطم
الآمال, والماديات التي سيطرت على القلوب بعد العقول, والالحاد والشطط بعيداً عن
ميادين الدين وساحات العبادة؛ ولا بد أن نقابل هذه الموبقات بما يكافئها ويقابلها
ويعالجها, وأعتقد جازماً أن التربية الصوفية وحدها هي الجديرة بعلاج ذلك؛ فالشهوة
لا يحل مشكلتها المقال ولا المواعظ من فوق المنابر وحده؛ بل لا بد من الحال ولا بد
من البيئة والتربية؛ والمادية لا يكافئها الكلمة وحدها بل لا بد من الشعور والذوق
والاحساسات الإيمانية مع المقال؛ والتمرد لا يعالج بالكلمة وحدها بل يعالج بالإخبات
لله والتقوى والورع والأدب وهذه طريقها العملي هو التصوف؛ فإذا اتضح هذا كله لم يبق
إلا أن يناقش مناقش: ولماذا اسم التصوف على وجه الخصوص؟ والجواب واضح بيّن يجاب عنه
بما سبق: ولماذا اسم النحو؟ ولماذا اسم البديع؟ ولماذا اسم الصرف؟ إنه مجرد اصطلاح
على علم نشأ كما نشأت بقية الاصطلاحات على سائر العلوم وتأكد ذلك خلال العصور. - إن
السير في طريق التصوف يضع قدم السالك في طريق السير إلى الله ليذوق حقيقة الإيمان؛
وبنفس الوقت يتعرف السالك على معنى الحقيقة الصوفية من خلال مطالعته كتب التصوف
وخاصة كتب المحاسبي والغزالي رحمهما الله, والرسالة القشيرية للعالم الفارس المجاهد
أبي القاسم القشيري, وكتب المجدد الشعراني عليه رحمة الله, وغيرهم ممن كتبوا وألفوا
حول التربية الصوفية...؛ وهنا قد يقول قائل: إن بعض كتب التصوف اختلط فيها الحابل
بالنابل, وكثر في بعضها الدخن فكيف النجاة لسالك في بداية الطريق؟ ولهذا أقول عليك
بالقراءة على يد فارس يجيد السير, وربان يجيد الإبحار, وصيرفي يجيد التمييز بين
النافع والضار, والحسن والقبيح, والموافق للشرع والمخالف له, ليجنبك العقبات ويختصر
لك الطريق ويفهمك مالم تقوى على فهمه, فقد يجد المطالع لبعض الكتب الصوفية دخن,
وهذا الدخن قد يكون نتاج سوء فهم لما كتب وعدم قدرة على استيعاب مرامي الكلام وقصد
المؤلف, وقد يكون بسبب دث الحاقدين كما حدث مع الإمام الشعراني, وقد يكون لأسباب
أخرى, فيأتي الشيخ ليوضح لمريده ماعن له وما صعب عليه, فإذا كان الأمر كذلك فلا يصح
أن يحول بيننا وبين أخذ الخير وجود هذا الدخن أياً ما كان نوعه ورسمه ومقصده ما
دمنا نقوى على التمييز ومعرفة مرامي الكلام ومقاصده. - لقد انطلقت بعض الحركات في
أكثر البلدان تعمل للإسلام بمفاهيم غامضة وأحياناً خاطئة مغلوطة, وبطرق اختلط فيها
الهدم بالبناء, والتعسير بالتيسير, والتفريط بالإفراط, والغلو بالاعتدال, وهؤلاء لا
سبيل لتصحيح مفاهيمهم الغامضة وتصرفاتهم الخاطئة إلا بمطالعة هذا الإرث الصوفي الذي
يصحح لهم أفهامهم ويجعلها منضبطة واضحة المعالم تعرف ما ينبغي أن يهدم ويزال, وما
ينبغي أن يبنى ويشيد ويجدد. - لقد قرأت كثيراً خلال فترة الدراسة والبحث وما زلت
وكلما قرأت صغرت أمام ما كتب, ولقد عشت كثيراً من التجارب التربوية وحصلت على دورات
في ذلك, ورأيت كثيراً من المربين والمريدين, ونادراً ما وجدت كمالاً في النفس أو
إحساناً في السلوك أو قدرة على التعامل العاقل إلا من خلال التربية الإسلامية
الصوفية الصافية, وذلك لأن مفاتيح النفس البشرية إنما هي في هذه التربية وأصولها
وقواعدها, لأن الصوفية هم الذين ورثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية النفس
وتزكيتها, وتخصصوا لذلك وتفرغوا له وفطنوا لما لم يفطن له غيرهم, وقامت لهم فيه
أسواق من التجارب الثرة في كل عصر, وتناثرت تجاربهم التربوية في كل مكان, وعلى
صفحات الكثير من الكتابات, فإذا لم يأخذ الإنسان عنهم هذا اللون من التربية, وهذا
الحال من المجاهدة النفسية, تبقى نفسه بعيدة عن الحال السوية. - إن الصوفية هم
الذين ملكوا العلم الذي تتهذب به النفوس البشرية، سواء في علاقتها مع الله عز وجل
أو فيما سوى ذلك من القدرة على التعامل مع الناس..., فالتصوف والبيئات الصوفية هي
القادرة على إيجاد الإنسان في كمالاته كلها؛ الإنسان الذي يقوم بفرائض العبودية
لله, والإنسان الذي يقدم أعظم العطاء في باب التعامل مع الآخرين فيقوم بذلك مجتمع
كله أدب وكله تراحم وكله عطف وكله مودة وكله إيثار وكله لطف..., ولذلك مهمتنا في
هذا العصر أن نوجد التربية الصوفية الكاملة الصافية وذلك بزرع بيئات صوفية صافية
على أن يأخذ التصوف محله في مجموع الإسلام, فلا يكون ملاذاً لكسل أو هرباً من
مسئولية دعوية أو سعياً لتكسب, أو مكاناً للهروب من المشاكل الحياتية, بل يكون
محضنا للتربية, وغذاء للروح, وحياة للعقول والقلوب. - ولعل البعض يطرح سؤالاً إذا
أعيته الحجج وهو: أليس في الكتاب والسنة ما يغني عن هذا المسميات والعلوم والرايات:
نعم, وهل أتى التصوف إلا من القرآن والسنة, لقد اقتبس زاده منهما كعلم التفسير
والحديث والفقه, فهو علم يجمع المثل إلى المثل ثم إنه ليس كل إنسان بقادر على أن
يستوعب جميع ما قرأ من قرآن أو سنة, أو يربط بين المواضيع التي قرأها, ولذلك لا بد
للإنسان من نقطة انطلاق سريعة المتناول تصل به إلى ما يريد, ومن ثم كان هذا العلم
كسائر العلوم لا غنى عنه في فهم الدين, وهو راية ثقافية فكرية تجمع ولا تفرق, وتوحد
ولا تشتت, فإذا كان التصوف مقيداً بالكتاب والسنة فإنكاره خطأ وجريمة كمن يريد
إنكار علم البديع أو الفقه...؛ إننا عندما نقرأ الكتاب والسنة نجد كلاماً كثيراً عن
القلب والإيمان والذوق وأمراض القلوب ودواء هذه الأمراض, ونجد كلاماً عن صمم القلب
وعماه وعن سلامته وسقمه وعن تقواه وفسوقه، وعن النفس البشرية عن زكاتها وعن فجورها
وأمثال هذه المعاني كثيرة؛ فشيء طيب يستوجب الثناء والشكر أن يسجل علماء المسلمين
كل ما له علاقة بهذه المعاني وهذه القضايا ضمن سجل خاص وأن ينشأ نتيجة لذلك علم خاص
في كل ما له علاقة في حيثيات هذه المعاني، ويطلقوا عليه اسم التصوف الإسلامي أو علم
السلوك والأخلاق؛ فليس المستغرب إذن أن يوجد هذا العلم بل المستغرب ألا يوجد, إذ
دأب علماء المسلمين أن يكتبوا في كل موضوع على حدة, فيضموا الشيء إلى نطيره وشبيهه
ومثيله ويشرحوا ذلك ويفصلوا ويبينوا, ويذكروا ثوابته وفروعه ويقعدوا لذلك ويفرعوا
ويجيبوا على أي سؤال له علاقة وصلة بهذا الموضوع, ومن ثم وجد هذا العلم وتطور وحدث
له ما يحدث لسائر العلوم من التصدي له من المتخصصين فيه وممن ليس من أهله, والتأليف
فيه ممن يتقنه أو لا يتقنه, ومن منحرف فيه ومستقيم، وهذا ليس بعيب فعلم العربية
والفقه والحديث لم يعيبهم تصدي غير المتخصصين فيهم, وإنما العيب فيمن تصدى للعلم
ولم يحمل من مؤهلات فهم العلم ومستلزمات إدراكه وقواعد فهمه قبل الخوض فيه؛ إنه ليس
غريباً أن يوجد العلم الذي يسجل فيه المسلمون خلال تاريخهم ملاحظاتهم وتجاربهم
الخاصة في موضوع السير من الغفلة عن الله إلى اليقظة, ومن الشرود إلى الالتزام, ومن
مرض النفس والقلب إلى صحتها, ولكن المستغرب ألا يوجد، فإذا وجد العلم ووجد
المتخصصون البارعون فيه ووجد الآخذون له فقد انتصب ميدانه ورفعت رايته وقام سوقه,
كيف لا وهو علم يحتاجه كل مسلم، وإذا كان كذلك فشيء عادي أن تقوم له مدارس, وأن
يكثر فيه الأخذ والرد, وأن توجد أشياء كثيرة ترافق هذا العلم وتعتبر من مكملاته أو
لوازمه, أما الطريق الأقصر للراغب أن يتعلم أو يتعرف أو يعمل، أن يقرأ هذا العلم في
كتبه وأن يأخذه من معدنه، لا من الشكليات المثارة هنا وهناك, وفي هذا المقام يقال
ما يقال في غيره من العلوم: الكتاب والسنة فيهما بيان كل شيء ومن ذلك ما له علاقة
بهذا العلم وما له علاقة بغيره؛ ولكن هل كل إنسان أحاط بما في الكتاب والسنة وعنده
قدرة أن يجمع النظير إلى النظير, وأن يعرف تفصيل المجمل وأن يضع الأمور في مواضعها؟
وهل الناس متساوون في الفهم وفي بعد النظر وفي عمق الإدراك؟ إن الذين ينفرون المسلم
العادي عن أخذ العلوم عن كتبها وأهلها يطوِّلون عليه الطريق بل يمنعونه من الوصول,
فكما لا يقال للمسلم تتبع موضوع الناسخ والمنسوخ من كتب التفسير إن أردته, وكما لا
يقال للمسلم تتبع أسباب النزول من مطولات كتب التفسير مع وجودها فيها, ومصطلح
الحديث من كتب السنة, وعلم التخريج من كتب الأحاديث, بل يقال له اقرأ كتاب الناسخ
والمنسوخ لفلان, وأسباب النزول لفلان, والتخريج والمصطلح لفلان.., فهكذا هنا وفي كل
علم, فذلك الطريق الأقصر لتحصيل العلم والتعرف عليه؛ فإذا كان لا بد من وجود علم
فلا بد كذلك من تحريره وتنقيحه؛ وهذا ما نقصده في علم التصوف المحرر والمنضبط على
ضوء الكتاب والسنة والمرضي من قبل العلماء الراسخين في العلم. - إن التصوف يأخذ بيد
السالك إلى الله على بصيرة, وموضوع السير إلى الله ضرورة وفريضة تقتضيها ضرورات
متعددة: فهذا الإنسان له ما يسمى بالنفس وما يسمى بالعقل وما يسمى بالقلب وما يسمى
بالروح وكل واحد من هذه المعاني عوالم عجيبة غريبة لا تنكشف للإنسان إلا من خلال
السير إلى الله عز وجل ومن ثم كان السير إلى الله عز وجل ضرورياً للإنسان ليعرف
الإنسان ذاته وما انطوى عليه ومن ثم كان الإنسان الذي لا يسير إلى الله لا يعلم
شيئاً كثيراً عن آفاق النفس وآفاق الذات وهذا سبب أول يدفع الإنسان نحو السير إلى
الله عز وجل, والسير إلى الله عز وجل هو الطريق الوحيد للمعرفة الصحيحة الذوقية
الشعورية لله عز وجل, فإن الإنسان يجهل الكثير عن خالقه عز وجل ما لم يسر إلى الله
عز وجل حتى لو كان مؤمناً ففارق كبير بين الإيمان العقلي النظري وبين الإيمان
الشعوري الذوقي وهذا سبب ثان يدفع الإنسان إلى السير إلى الله عز وجل, والنفس
البشرية تمرض ولا تصح إلا بسلوكها الطريق الصحيح إلى الله عز وجل، والنفس البشرية
مطالبة بعظيم من الأخلاق ولا تنال الفلاح بدونه وهذا لا تتحقق به بدون السير إلى
الله عز وجل وهذا سبب آخر يدفع إلى السير إلى الله عز وجل.., ومن ثم كان السير إلى
الله عز وجل واجباً على درجات تختلف باختلاف الاستعدادات, فلا بد من سير وعلى قدر
الهمم تكون درجات السائرين قال تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس]
. وقال {لن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج] . وقال
عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح "لوكان الإيمان في الثريا لناله رجال من
أبناء فارس" (رواه البخاري).. - والسير إلى الله عز وجل يقتضيه التنفيذ الواعي
الحكيم لأوامر الله عز وجل فالذي لا يعرف أصول السير إلى الله والغاية منها يفوته
الكثير من تنفيذ الأوامر الإلهية كقوله تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وكقوله
تعالى {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً} كما يقتضيه تذوق المعاني الإسلامية
الواردة في الكتاب والسنة كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} وكقوله عليه الصلاة
والسلام "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" [2] فالسير إلى الله
ضروري والكتابة فيه ضرورية ودفع الأوهام فيه ضروري وإنهاء الغلوّ في شأنه ضروري...
وكل ذلك دافع إلى ولوج باب التصوف قراءة ومطالعة لكتبه, وتربية على يد علمائه
ومشايخه؛ وإنني أعتقد أن كل مسلم سائر إلى الله ما دام يفعل ما أمره الله عز وجل
وله حظ من مقامات السير بذلك, ولكن البحث عن الكمال والوصول إليه وإتيان البيوت من
أبوابها ومعرفة المصادر والموارد والبدايات والنهايات والحدود والقيود للمقامات
كلها دنياها وعلياها واجب الوقت والحال. - إن التصوف فكرة ومذهب وعلم, من سار فيه
وسلك طرقه آمن فيه بالوسطية والاعتدال لا الجمود والتفريط والافراط واعتقد التيسير
والتبشير لا الغلو والتنفير وعمل على التجميع لا التفريق. - إن التصوف افتري عليه
من قبل أهل الجمود والغلو وأهل الإفراط والتفريط .. والتصوف ليس بابا من أبواب
التكسب والمظهرة والتعالي وليس سلماً للوصول إلى المآرب الشخصية والأهواء النفسية
وإنما هو باب الإخبات والذل والانكسار. - إن من أراد التصوف الحق فليسلكه على يد
شيخ مرب عالم يجلس بين يديه متأدب بأدب طالب العلم حتى يكون مريداً حقاً. - إن من
سلك طرق التصوف غير متأدب بآدابه ومن تقول على التصوف بما ليس فيه فقد افترى عليه..
فالتصوف ذهب وتبر واراه تراب الغلو وشوهه غبار التفريط والافراط.. - كلمة صوفي
تحتاج إلى مجاهدة وحتى تصل إليها تحتاج إلى رحلة طويلة من التربية على يد العارفين
بالله تعالى والأغلب الأعم يقابل الله وهو في الطريق إليه سائر سالك... - والمريد
المتصوف سالك يبحث عما يهذب نفسه ويرتقي بروحه ويحاول جاهدا أن يتخلص من العيوب
الظاهرة والباطنة ..؛ قد يقع أحيانا أثناء سيره إلى الله ولكنه لا يطيل الرقاد وقد
يكسل ويفتر ولكنه لا يكثر التثاؤب... - المريد المتصوف لا يكثر الالتفات إلى
الخراصين والمتقولين عليه مالم يعتقده ..؛ فهو يؤمن بالتطبيق ويعتقد من أعماقه بأن
هناك فارق بين النظرية والممارسة وأن الممارسة الخاطئة ليس معناها خطأ النظرية..؛
وهذا سر تمسكه بطريقه وطريقته رغم غربته فيه.. - المتصوف الحق لا يعوقه أثناء سيره
أهل العقوق من أبناء طريقته, ومثله في سيره وهم من حوله كمثل عاقين حول بار واصل,
ينصح لهم دون التعلق بفعلهم, بل قل إن شئت كمثل من يدرس علوم العربية ويجيدها وحوله
من يدرسها ويخطئ فيها, أو يدرس الفقه ويفهم قواعده وحوله من يدرس معه ولا يفهم
قواعده ولا يعرف مقاصده ولا أدلته. - التراث الصوفي نور للفكر ووقود للعقل والبصيرة
لا يبصره جاهل ولا يطالعه أعمى, وهو سراج أطفأه البعض عن عمد أو غباء خوفاً من هاجس
التشيع, أو بحجة أن البعض ابتدع فيه ما ليس منه, ولهؤلاء أقول: سلة الفواكه لا تلقى
لمجرد رؤية واحدة فاسدة بين مئات الحبات. - وأخيراً لهؤلاء الذين يكثرون الشغب حول
التصوف دون الولوج فيه أو معرفة مرامي كلام علمائه, أقول لهم لا تكونوا كالعمي الذي
أصابوا جملاً وطلب من كل واحد منهم وصفه فوصفوه بما لمسوا من أعضائه دون يصلوا إلى
الحقيقة الكاملة لجسمه, ولو أبصروا لاجتمعوا على رأي واحد لا خلاف عليه, فأبصروا
حقيقة الجمل تفلحوا ولا تختلفوا, ولا تقفوا عند بعره فتتسخ أقوالكم وأوصافكم. ولا
تكونوا كالذي يسمع الحكمة فيحدث بشر ما سمع, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مثل الذي يسمع الحكمة فيحدث بشر ما سمع مثل رجل أتى راعيا فقال : يا راعي أجزرني
شاة من غنمك فقال : اذهب فخذ بأذن خيرها شاة, فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم". اللهم
بصرنا بعيوبنا واغفر لنا تقصيرنا, وعلى الله قصد السبيل. د. عاطف زيتحار
التصوف الذي تربيت عليه
د. عاطف زيتحار
السلام عليكم ورحمة لله وبركاته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً..؛ وبعد..
فلقد كتبت مادحاً التصوف الإسلامي في يوم من الأيام على صفحتي الشخصية فجاءتني التعليقات من أحبابي الذين أتوسم فيهم الخير بين مشيد بها ومهاجم لها ومستغرب منها, وللجميع أقول:
لقد عشت حياتي مع والدي عليه رحمة الله الشيخ الرفاعي الزاهد الورع الذي عاش طيلة حياته متصوفاً, وأشهد الله أنني ما رأيت منه إلا خيراً وما أرشدني إلا إلى النور, وما علمني إلا الحق, وما أطعمني إلا حلالاً, وكثيراً ما كان يصحبني معه إلى المسجد وحلقات الذكر وأنا صغير, فتربيت على حب المساجد وعشق محبيها وعلى حلقات الذكر بمعناها ومفهومها الشامل, وعلى حب آل البيت وأولياء الله الصالحين, حتى كبرت والتحقت بالأزهر الشريف فأخذ بيدي ودفعني إليه دفعاً, وقادني ومن معه من أحبابه إلى الإمامة والخطابة فكنت إماماً وخطيباً وأنا في الصف الثاني الإعدادي..
فلما كانت مرحلة الجامعة انشغلت بالدراسة والانتقال من كلية أصول الدين إلى كلية الدراسات رجاء أن أعين معيداً بها, فلما انشغلت باتحاد الطلاب والسفر هنا وهناك نسيت مهمتي التي انتقلت من أجلها, وكان قدر الله فوق كل شيء, ففاتني التعين معيداً وعينت إماماً وخطيباً بعد التخرج مباشرة, وبعدها التحقت بالدراسات العليا, ثم مرحلة البحث العلمي (الماجستير والدكتوراه) التي أخذت بيدي إلى الاطلاع الموسع عن التصوف في بلاد المشرق والمغرب, وهذه المرحلة ذكرتني بما كنت فيه, وما تربيت عليه, فقادتني إلى البحث عن شيخ بعد والدي يلقنني التصوف كما لقنني إياه والدي عليه رحمة الله ويعيد إلي ذاكرتي التي سلبت مني فترة, فوجدت من الخير ما تفرح بحمله الجبال الشم, فالتقيت هنا شيخا وهناك أشياخ, وما زلت أتعلم على يد هؤلاء الكرام, وأبحث بين أقبية الأزهر وحول مآذن آل البيت الكرام عن هؤلاء الذين يحملون هذا العلم..
وإنني كل يوم أتعلم فيه جديداً على يد مشايخي الكرام أزداد يقيناً بأن التصوف الإسلامي مدرسة فكرية راقية, ويزداد يقيني كلما اطلعت على تراثه الضخم في طول البلاد وعرضها, وعقيدتي فيه أنه سراج افتري عليه من قبل الكثير ليظلم ولا يضيئ .
ومن خلال هذه التجربة طيلة هذه السنوات أستطيع القول:
- أن أكثر الذين ينكرون علي قولي هذا في التصوف الإسلامي, إنما ينكرون الاسم فقط, فهناك أناس لا يطيقون أن يسمعوا اسم تصوف وطرق صوفية, وذلك بسبب الرسائل السلبية المسيطرة على أفكارهم وعقولهم, ولو أنهم طالعوا ما كتب عن التصوف بتجرد لخرجوا إلى النور وأبصروا الحقيقة؛ ولهؤلاء أقول على رسلكم أيها المتحمسون المتعجلون, اخلعوا منظاركم الأسود تروا النور, فهذا التاريخ القديم والحديث بيني وبينكم إنه لم ينكر خلال العصور المتقدمة أو المتأخرة اسم التصوف أحد من الناس لأنه اصطلاح على علم كعلم النحو والصرف والبديع والمعاني والفقه والحديث وغير ذلك, ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقول العلماء, وحتى في عصرنا هذا توجد فتاوى ابن تيمية خرج منها مجلدان تحت اسم التصوف والأخلاق ولم أر على ذلك إنكاراً لقوله من أحد, فأرجو التأني في الإنكار على قضية علمية ثابتة لا مبرر للإنكار فيها أصلاً, إذ ما مبرر الإنكار على اسم مباح أطلق على علم من العلوم حتى أصبح علماً عليه, على هذا تعارف العلماء على مر التاريخ القديم والحديث, ولم ينكر ذلك إلا ثلة ذات فهم معوج غالي, لم يطالعوا شيئاً من ذلك التراث الضخم المنثور في كل مكتبات الدنيا, فإذا تجاوزنا هذه النقطة وينبغي تجاوزها فإن المضمون هو الذي ينبغي أن يكون محل النقاش, فليكن همنا هو الوصول إلى الحق والحقيقة في المضمون أكثر من مناقشة في جانب لا يترتب على النقاش فيه أي طائل أو أي ثمرة.
- إن من سلك هذا الطريق على أصول الكتاب والسنة ومذاهب أهل الحق فإنه يعصمه من الشطط الثقافي والغلو الفكري والتشدد الديني والتفريط العقائدي؛ قال أبو سليمان الداراني رحمه الله أكبر أعلام الصوفية في عصره: ربما وقعت النكتة من كلام القوم في قلبي فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة لأن الله عز وجل ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي فيما سوى ذلك؛ ومن هنا ندرك خطأ بعض من سلك هذا الطريق الذي يريد أن يجعل كل ما قاله أئمة التصوف في كتبهم معصوماً كعصمة الكتاب والسنة, إن أمثال هؤلاء لا فارق بينهم وبين الغلاة الذين غالوا في أحبارهم ورهبانهم, فإن كان هذا رأينا في أمثال هؤلاء الغلاة فإن رأينا كذلك أشد في شأن قطاع الطرق الذين يرفضون علم التصوف وما فيه لمجرد أن وجد خطأ هنا أو هناك, فهم يقابلون خطأ بخطأ ويتصرفون برد فعل انفعالي غير عقلاني ولا متزن ولا راشد..
- إن ولوج طريق التصوف والسير فيه على بصيرة يعصم من الانجراف في تيار الغلو أو في التيار المعادي على غير بصيرة؛ والسير الروحي في طرق التصوف مطالب به كل إنسان مسلم لتصحيح الوجهة والقلب وزكاة النفس, وإن كان العموم مطالب به؛ فالانشغال به الزامي في حق الدعاة وبالأخص خريجي المعاهد الشرعية والكليات الأزهرية قبل الخوض في غمار الدعوة والنزول إلى الناس, وطرق أبواب قلوبهم, ومخاطبتهم من فوق منابر الدعوة وشرفات الفتوى, وعلى هؤلاء واجب تصحيح المفاهيم المغلوطة عن التصوف وطرقه كما صححها الشيخ سعيد الكردي النقشبندي في تركيا, والشيخ الصوفي شامل النقشبندي في تركستان, والشيخ الصوفي الفاروقي المجددي في الهند, والسنوسيين في ليبيا, والدراويش في السودان, كل هؤلاء حملوا التصوف الروحي بشموله وتمامه وكماله فحمله عنهم عموم الناس في هذه البلدان عن قناعة.
- إن أكثر من تسعين بالمائة من علماء الأمة الإسلامية طيلة قرونها المنصرمة لهم صلة بالتصوف وطرقه ومريديه ومشايخه بشكل مباشر أو غير مباشر, بالاشتغال فيه أو بالتلمذة على أهله أو بالصلة بهم أو بالثقة فيهم أو بالانتساب الاسمي لهم أو لمن تتلمذ عليهم ولا زال التصوف وأهله حتى الآن هم الذين يصلون إلى بيئات ومناطق لا يصل إليها غيرهم, فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا الأمر وحده كاف لأن يعطي المبرر لإزاحة الأتربة عن عقول البعض الذين يرون في التصوف خبلاً, وما هو بخبل وإنما الخبل في تربيتهم ونقصان فكرهم, وقلة ثقافتهم, فلا يكفي أن تذكر الخطأ في شيء وإنما عليك أن تبين الصواب فيه, ولا يكفي أن تهدم بل عليك أن تبني, وعليك دائماً أن تقدم البديل الصالح للمبدل عنه إذا كان ما أنت فيه يستحيل الاستغناء عنه أو التفريط فيه أو تجاهله.
- إن هذا العصر يموج بالشهوات التي تذهب العقول, والنزوات التي تقتل الأفكار وتحطم الآمال, والماديات التي سيطرت على القلوب بعد العقول, والالحاد والشطط بعيداً عن ميادين الدين وساحات العبادة؛ ولا بد أن نقابل هذه الموبقات بما يكافئها ويقابلها ويعالجها, وأعتقد جازماً أن التربية الصوفية وحدها هي الجديرة بعلاج ذلك؛ فالشهوة لا يحل مشكلتها المقال ولا المواعظ من فوق المنابر وحده؛ بل لا بد من الحال ولا بد من البيئة والتربية؛ والمادية لا يكافئها الكلمة وحدها بل لا بد من الشعور والذوق والاحساسات الإيمانية مع المقال؛ والتمرد لا يعالج بالكلمة وحدها بل يعالج بالإخبات لله والتقوى والورع والأدب وهذه طريقها العملي هو التصوف؛ فإذا اتضح هذا كله لم يبق إلا أن يناقش مناقش: ولماذا اسم التصوف على وجه الخصوص؟ والجواب واضح بيّن يجاب عنه بما سبق: ولماذا اسم النحو؟ ولماذا اسم البديع؟ ولماذا اسم الصرف؟ إنه مجرد اصطلاح على علم نشأ كما نشأت بقية الاصطلاحات على سائر العلوم وتأكد ذلك خلال العصور.
- إن السير في طريق التصوف يضع قدم السالك في طريق السير إلى الله ليذوق حقيقة الإيمان؛ وبنفس الوقت يتعرف السالك على معنى الحقيقة الصوفية من خلال مطالعته كتب التصوف وخاصة كتب المحاسبي والغزالي رحمهما الله, والرسالة القشيرية للعالم الفارس المجاهد أبي القاسم القشيري, وكتب المجدد الشعراني عليه رحمة الله, وغيرهم ممن كتبوا وألفوا حول التربية الصوفية...؛ وهنا قد يقول قائل: إن بعض كتب التصوف اختلط فيها الحابل بالنابل, وكثر في بعضها الدخن فكيف النجاة لسالك في بداية الطريق؟ ولهذا أقول عليك بالقراءة على يد فارس يجيد السير, وربان يجيد الإبحار, وصيرفي يجيد التمييز بين النافع والضار, والحسن والقبيح, والموافق للشرع والمخالف له, ليجنبك العقبات ويختصر لك الطريق ويفهمك مالم تقوى على فهمه, فقد يجد المطالع لبعض الكتب الصوفية دخن, وهذا الدخن قد يكون نتاج سوء فهم لما كتب وعدم قدرة على استيعاب مرامي الكلام وقصد المؤلف, وقد يكون بسبب دث الحاقدين كما حدث مع الإمام الشعراني, وقد يكون لأسباب أخرى, فيأتي الشيخ ليوضح لمريده ماعن له وما صعب عليه, فإذا كان الأمر كذلك فلا يصح أن يحول بيننا وبين أخذ الخير وجود هذا الدخن أياً ما كان نوعه ورسمه ومقصده ما دمنا نقوى على التمييز ومعرفة مرامي الكلام ومقاصده.
- لقد انطلقت بعض الحركات في أكثر البلدان تعمل للإسلام بمفاهيم غامضة وأحياناً خاطئة مغلوطة, وبطرق اختلط فيها الهدم بالبناء, والتعسير بالتيسير, والتفريط بالإفراط, والغلو بالاعتدال, وهؤلاء لا سبيل لتصحيح مفاهيمهم الغامضة وتصرفاتهم الخاطئة إلا بمطالعة هذا الإرث الصوفي الذي يصحح لهم أفهامهم ويجعلها منضبطة واضحة المعالم تعرف ما ينبغي أن يهدم ويزال, وما ينبغي أن يبنى ويشيد ويجدد.
- لقد قرأت كثيراً خلال فترة الدراسة والبحث وما زلت وكلما قرأت صغرت أمام ما كتب, ولقد عشت كثيراً من التجارب التربوية وحصلت على دورات في ذلك, ورأيت كثيراً من المربين والمريدين, ونادراً ما وجدت كمالاً في النفس أو إحساناً في السلوك أو قدرة على التعامل العاقل إلا من خلال التربية الإسلامية الصوفية الصافية, وذلك لأن مفاتيح النفس البشرية إنما هي في هذه التربية وأصولها وقواعدها, لأن الصوفية هم الذين ورثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية النفس وتزكيتها, وتخصصوا لذلك وتفرغوا له وفطنوا لما لم يفطن له غيرهم, وقامت لهم فيه أسواق من التجارب الثرة في كل عصر, وتناثرت تجاربهم التربوية في كل مكان, وعلى صفحات الكثير من الكتابات, فإذا لم يأخذ الإنسان عنهم هذا اللون من التربية, وهذا الحال من المجاهدة النفسية, تبقى نفسه بعيدة عن الحال السوية.
- إن الصوفية هم الذين ملكوا العلم الذي تتهذب به النفوس البشرية، سواء في علاقتها مع الله عز وجل أو فيما سوى ذلك من القدرة على التعامل مع الناس..., فالتصوف والبيئات الصوفية هي القادرة على إيجاد الإنسان في كمالاته كلها؛ الإنسان الذي يقوم بفرائض العبودية لله, والإنسان الذي يقدم أعظم العطاء في باب التعامل مع الآخرين فيقوم بذلك مجتمع كله أدب وكله تراحم وكله عطف وكله مودة وكله إيثار وكله لطف..., ولذلك مهمتنا في هذا العصر أن نوجد التربية الصوفية الكاملة الصافية وذلك بزرع بيئات صوفية صافية على أن يأخذ التصوف محله في مجموع الإسلام, فلا يكون ملاذاً لكسل أو هرباً من مسئولية دعوية أو سعياً لتكسب, أو مكاناً للهروب من المشاكل الحياتية, بل يكون محضنا للتربية, وغذاء للروح, وحياة للعقول والقلوب.
- ولعل البعض يطرح سؤالاً إذا أعيته الحجج وهو: أليس في الكتاب والسنة ما يغني عن هذا المسميات والعلوم والرايات: نعم, وهل أتى التصوف إلا من القرآن والسنة, لقد اقتبس زاده منهما كعلم التفسير والحديث والفقه, فهو علم يجمع المثل إلى المثل ثم إنه ليس كل إنسان بقادر على أن يستوعب جميع ما قرأ من قرآن أو سنة, أو يربط بين المواضيع التي قرأها, ولذلك لا بد للإنسان من نقطة انطلاق سريعة المتناول تصل به إلى ما يريد, ومن ثم كان هذا العلم كسائر العلوم لا غنى عنه في فهم الدين, وهو راية ثقافية فكرية تجمع ولا تفرق, وتوحد ولا تشتت, فإذا كان التصوف مقيداً بالكتاب والسنة فإنكاره خطأ وجريمة كمن يريد إنكار علم البديع أو الفقه...؛ إننا عندما نقرأ الكتاب والسنة نجد كلاماً كثيراً عن القلب والإيمان والذوق وأمراض القلوب ودواء هذه الأمراض, ونجد كلاماً عن صمم القلب وعماه وعن سلامته وسقمه وعن تقواه وفسوقه، وعن النفس البشرية عن زكاتها وعن فجورها وأمثال هذه المعاني كثيرة؛ فشيء طيب يستوجب الثناء والشكر أن يسجل علماء المسلمين كل ما له علاقة بهذه المعاني وهذه القضايا ضمن سجل خاص وأن ينشأ نتيجة لذلك علم خاص في كل ما له علاقة في حيثيات هذه المعاني، ويطلقوا عليه اسم التصوف الإسلامي أو علم السلوك والأخلاق؛ فليس المستغرب إذن أن يوجد هذا العلم بل المستغرب ألا يوجد, إذ دأب علماء المسلمين أن يكتبوا في كل موضوع على حدة, فيضموا الشيء إلى نطيره وشبيهه ومثيله ويشرحوا ذلك ويفصلوا ويبينوا, ويذكروا ثوابته وفروعه ويقعدوا لذلك ويفرعوا ويجيبوا على أي سؤال له علاقة وصلة بهذا الموضوع, ومن ثم وجد هذا العلم وتطور وحدث له ما يحدث لسائر العلوم من التصدي له من المتخصصين فيه وممن ليس من أهله, والتأليف فيه ممن يتقنه أو لا يتقنه, ومن منحرف فيه ومستقيم، وهذا ليس بعيب فعلم العربية والفقه والحديث لم يعيبهم تصدي غير المتخصصين فيهم, وإنما العيب فيمن تصدى للعلم ولم يحمل من مؤهلات فهم العلم ومستلزمات إدراكه وقواعد فهمه قبل الخوض فيه؛ إنه ليس غريباً أن يوجد العلم الذي يسجل فيه المسلمون خلال تاريخهم ملاحظاتهم وتجاربهم الخاصة في موضوع السير من الغفلة عن الله إلى اليقظة, ومن الشرود إلى الالتزام, ومن مرض النفس والقلب إلى صحتها, ولكن المستغرب ألا يوجد، فإذا وجد العلم ووجد المتخصصون البارعون فيه ووجد الآخذون له فقد انتصب ميدانه ورفعت رايته وقام سوقه, كيف لا وهو علم يحتاجه كل مسلم، وإذا كان كذلك فشيء عادي أن تقوم له مدارس, وأن يكثر فيه الأخذ والرد, وأن توجد أشياء كثيرة ترافق هذا العلم وتعتبر من مكملاته أو لوازمه, أما الطريق الأقصر للراغب أن يتعلم أو يتعرف أو يعمل، أن يقرأ هذا العلم في كتبه وأن يأخذه من معدنه، لا من الشكليات المثارة هنا وهناك, وفي هذا المقام يقال ما يقال في غيره من العلوم: الكتاب والسنة فيهما بيان كل شيء ومن ذلك ما له علاقة بهذا العلم وما له علاقة بغيره؛ ولكن هل كل إنسان أحاط بما في الكتاب والسنة وعنده قدرة أن يجمع النظير إلى النظير, وأن يعرف تفصيل المجمل وأن يضع الأمور في مواضعها؟ وهل الناس متساوون في الفهم وفي بعد النظر وفي عمق الإدراك؟ إن الذين ينفرون المسلم العادي عن أخذ العلوم عن كتبها وأهلها يطوِّلون عليه الطريق بل يمنعونه من الوصول, فكما لا يقال للمسلم تتبع موضوع الناسخ والمنسوخ من كتب التفسير إن أردته, وكما لا يقال للمسلم تتبع أسباب النزول من مطولات كتب التفسير مع وجودها فيها, ومصطلح الحديث من كتب السنة, وعلم التخريج من كتب الأحاديث, بل يقال له اقرأ كتاب الناسخ والمنسوخ لفلان, وأسباب النزول لفلان, والتخريج والمصطلح لفلان.., فهكذا هنا وفي كل علم, فذلك الطريق الأقصر لتحصيل العلم والتعرف عليه؛ فإذا كان لا بد من وجود علم فلا بد كذلك من تحريره وتنقيحه؛ وهذا ما نقصده في علم التصوف المحرر والمنضبط على ضوء الكتاب والسنة والمرضي من قبل العلماء الراسخين في العلم.
- إن التصوف يأخذ بيد السالك إلى الله على بصيرة, وموضوع السير إلى الله ضرورة وفريضة تقتضيها ضرورات متعددة: فهذا الإنسان له ما يسمى بالنفس وما يسمى بالعقل وما يسمى بالقلب وما يسمى بالروح وكل واحد من هذه المعاني عوالم عجيبة غريبة لا تنكشف للإنسان إلا من خلال السير إلى الله عز وجل ومن ثم كان السير إلى الله عز وجل ضرورياً للإنسان ليعرف الإنسان ذاته وما انطوى عليه ومن ثم كان الإنسان الذي لا يسير إلى الله لا يعلم شيئاً كثيراً عن آفاق النفس وآفاق الذات وهذا سبب أول يدفع الإنسان نحو السير إلى الله عز وجل, والسير إلى الله عز وجل هو الطريق الوحيد للمعرفة الصحيحة الذوقية الشعورية لله عز وجل, فإن الإنسان يجهل الكثير عن خالقه عز وجل ما لم يسر إلى الله عز وجل حتى لو كان مؤمناً ففارق كبير بين الإيمان العقلي النظري وبين الإيمان الشعوري الذوقي وهذا سبب ثان يدفع الإنسان إلى السير إلى الله عز وجل, والنفس البشرية تمرض ولا تصح إلا بسلوكها الطريق الصحيح إلى الله عز وجل، والنفس البشرية مطالبة بعظيم من الأخلاق ولا تنال الفلاح بدونه وهذا لا تتحقق به بدون السير إلى الله عز وجل وهذا سبب آخر يدفع إلى السير إلى الله عز وجل.., ومن ثم كان السير إلى الله عز وجل واجباً على درجات تختلف باختلاف الاستعدادات, فلا بد من سير وعلى قدر الهمم تكون درجات السائرين قال تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس] . وقال {لن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج] . وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح "لوكان الإيمان في الثريا لناله رجال من أبناء فارس" (رواه البخاري)..
- والسير إلى الله عز وجل يقتضيه التنفيذ الواعي الحكيم لأوامر الله عز وجل فالذي لا يعرف أصول السير إلى الله والغاية منها يفوته الكثير من تنفيذ الأوامر الإلهية كقوله تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وكقوله تعالى {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً} كما يقتضيه تذوق المعاني الإسلامية الواردة في الكتاب والسنة كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} وكقوله عليه الصلاة والسلام "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" [2] فالسير إلى الله ضروري والكتابة فيه ضرورية ودفع الأوهام فيه ضروري وإنهاء الغلوّ في شأنه ضروري... وكل ذلك دافع إلى ولوج باب التصوف قراءة ومطالعة لكتبه, وتربية على يد علمائه ومشايخه؛ وإنني أعتقد أن كل مسلم سائر إلى الله ما دام يفعل ما أمره الله عز وجل وله حظ من مقامات السير بذلك, ولكن البحث عن الكمال والوصول إليه وإتيان البيوت من أبوابها ومعرفة المصادر والموارد والبدايات والنهايات والحدود والقيود للمقامات كلها دنياها وعلياها واجب الوقت والحال.
- إن التصوف فكرة ومذهب وعلم, من سار فيه وسلك طرقه آمن فيه بالوسطية والاعتدال لا الجمود والتفريط والافراط واعتقد التيسير والتبشير لا الغلو والتنفير وعمل على التجميع لا التفريق.
- إن التصوف افتري عليه من قبل أهل الجمود والغلو وأهل الإفراط والتفريط .. والتصوف ليس بابا من أبواب التكسب والمظهرة والتعالي وليس سلماً للوصول إلى المآرب الشخصية والأهواء النفسية وإنما هو باب الإخبات والذل والانكسار.
- إن من أراد التصوف الحق فليسلكه على يد شيخ مرب عالم يجلس بين يديه متأدب بأدب طالب العلم حتى يكون مريداً حقاً.
- إن من سلك طرق التصوف غير متأدب بآدابه ومن تقول على التصوف بما ليس فيه فقد افترى عليه.. فالتصوف ذهب وتبر واراه تراب الغلو وشوهه غبار التفريط والافراط..
- كلمة صوفي تحتاج إلى مجاهدة وحتى تصل إليها تحتاج إلى رحلة طويلة من التربية على يد العارفين بالله تعالى والأغلب الأعم يقابل الله وهو في الطريق إليه سائر سالك...
- والمريد المتصوف سالك يبحث عما يهذب نفسه ويرتقي بروحه ويحاول جاهدا أن يتخلص من العيوب الظاهرة والباطنة ..؛ قد يقع أحيانا أثناء سيره إلى الله ولكنه لا يطيل الرقاد وقد يكسل ويفتر ولكنه لا يكثر التثاؤب...
- المريد المتصوف لا يكثر الالتفات إلى الخراصين والمتقولين عليه مالم يعتقده ..؛ فهو يؤمن بالتطبيق ويعتقد من أعماقه بأن هناك فارق بين النظرية والممارسة وأن الممارسة الخاطئة ليس معناها خطأ النظرية..؛ وهذا سر تمسكه بطريقه وطريقته رغم غربته فيه..
- المتصوف الحق لا يعوقه أثناء سيره أهل العقوق من أبناء طريقته, ومثله في سيره وهم من حوله كمثل عاقين حول بار واصل, ينصح لهم دون التعلق بفعلهم, بل قل إن شئت كمثل من يدرس علوم العربية ويجيدها وحوله من يدرسها ويخطئ فيها, أو يدرس الفقه ويفهم قواعده وحوله من يدرس معه ولا يفهم قواعده ولا يعرف مقاصده ولا أدلته.
- التراث الصوفي نور للفكر ووقود للعقل والبصيرة لا يبصره جاهل ولا يطالعه أعمى, وهو سراج أطفأه البعض عن عمد أو غباء خوفاً من هاجس التشيع, أو بحجة أن البعض ابتدع فيه ما ليس منه, ولهؤلاء أقول: سلة الفواكه لا تلقى لمجرد رؤية واحدة فاسدة بين مئات الحبات.
- وأخيراً لهؤلاء الذين يكثرون الشغب حول التصوف دون الولوج فيه أو معرفة مرامي كلام علمائه, أقول لهم لا تكونوا كالعمي الذي أصابوا جملاً وطلب من كل واحد منهم وصفه فوصفوه بما لمسوا من أعضائه دون يصلوا إلى الحقيقة الكاملة لجسمه, ولو أبصروا لاجتمعوا على رأي واحد لا خلاف عليه, فأبصروا حقيقة الجمل تفلحوا ولا تختلفوا, ولا تقفوا عند بعره فتتسخ أقوالكم وأوصافكم.
ولا تكونوا كالذي يسمع الحكمة فيحدث بشر ما سمع, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يسمع الحكمة فيحدث بشر ما سمع مثل رجل أتى راعيا فقال : يا راعي أجزرني شاة من غنمك فقال : اذهب فخذ بأذن خيرها شاة, فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم".
اللهم بصرنا بعيوبنا واغفر لنا تقصيرنا, وعلى الله قصد السبيل.
د. عاطف زيتحار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق