عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المرأة في الهجرة النبوية
تمهيد حول تاريخ الهجرة :
الهجرة كما هو معلوم مرحلة من أهم المراحل في تاريخ المسلمين , فلقد جعلت للإسلام عهدين يكادان يتساويان , عهد الفرد قبل الهجرة , وعهد الجماعة والدولة بعدها , وعهد الضعف قبل الهجرة , وعهد القوة بعدها .
لقد أُعلم النبي – صلى الله عليه وسلم - بخروجه منذ بُعث إليه , وكان ذلك في البداية على لسان ورقة بن نوفل الذي قال للنبي – صلى الله عليه وسلم - : هذا الناموس الذي نزله الله به على موسى – عليه السلام - يا ليتني فيها جذع ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" أومخرجي هم " , قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ( ).
لم تكن الوجهة معلومة للنبي –صلى الله عليه وسلم - في هذا الوقت , ولذلك ما سمع بوافد يفد إلى المدينة إلا وتصدى له في الموسم وغيره , ثم انتقل إلى القبائل وشعاره كما روى جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما – قال: كان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على الناس في الموقف , فقال :" ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربى "( ).
يقول المقريزي –رحمه الله -: ثم عرض - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع....( ).
وروي أنه أتى بنى عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ؛ فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الامر من بعدك ؟ قال: " الأمر لله يضعه حيث يشاء" ؛ قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك...؛ فأبوا عليه...؛ فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش , أحد بنى عبدالمطلب، يزعم أنه نبى يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا...؛ قال: فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بنى عامر هل لها من تلاف ؟ هل لذناباها من مطلب ؟ والذى نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلى قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم ! ( ).
وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: " لا أكره أحدا منكم على شئ، من رضى منكم بالذى أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لى من القتل حتى أبلغ رسالة ربى، وحتى يقضى الله لى ولمن صحبني بما شاء( ).
ظل النبي – صلى الله عليه وسلم – يبحث عن موطن يحميه من عدوه , ومكان ينطلق منه بدعوته , حتى جاءت الإسراء والمعراج , فحددت له معلم الانطلاق بالدين , ودار نشره , ومأوى أصحابه ؛ صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنه قال في رحلة الإسراء : "قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين" ( ).
أخرج الطبراني بسنده عن شداد بن أوس –رضي الله عنه - قال : قلت يارسول الله كيف أسري بك ليلة أسري بك ؟ قال : " صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتما فأتاني جبريل - صلى الله عليه وسلم - بدابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل فقال : اركب فاستصعب علي فدارها بأذنها ثم حملني عليها فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها حتى بلغنا أرضا ذات نخل فقال : انزل فنزلت ثم قال : صل فصليت ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت ؟ قلت : الله أعلم قال : صليت بيثرب صليت بطيبة ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها حتى بلغنا أرضا بيضاء فقال : انزل فنزلت ثم قال : صل فصليت ثم ركبنا فقال : تدري أين صليت ؟ قلت الله أعلم قال : صليت بمدين صليت عند شجرة موسى –عليه السلام - ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصورها فقال : انزل فنزلت ثم قال : صل فصليت فقال : أتدري أين صليت ؟ فقلت : الله ورسوله أعلم قال : صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى - عليه السلام - المسيح بن مريم ( ).
وفي رواية النسائي :" فقال : انزل فصل ففعلت , فقال: أتدري أين صليت ؟ صليت بطيبة , وإليها المهاجر"( ).
بعد هذا التوجيه الرباني , ومعرفة دار الانطلاق بهذا الدين , ما سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – بوافد يفد إلى مكة من أهل المدينة إلا وتصدى له ودعاه إلى الله , وكان من بين هذه الطلائع التي كانت سببا في إسماع صوت الإسلام في المدينة وبيعتي العقبة الصغرى والكبرى : سويد بن الصامت الذي التقى النبي – صلى الله عليه وسلم - في الموسم والذي كان يسمى الكامل لشرفه وجلده , ورجاحة عقله , وقتل يوم بعاث , وقيل فيه إنه مات مسلما , وإياس بن معاذ جاء مع قومه يلتمس الحلف من قريش فوصل الإسلام إلى قلبه , ومات في وقعة بعاث , ثم التقى وفدا من الخزرج عن العقبة ودعاهم فاستجابوا , وكانوا ستة نفر : أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رئاب ؛ فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا بينهم فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- ( ).
وبعد عام من إسلام هؤلاء الستة , وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً فلقوه - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة، وبايعوه بيعة العقبة الأولى، عشرة من الخزرج واثنان من الأوس, وأرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – معهم مصعبا معلما , وبعد عام كانت البيعة الكبرى ثم تتابع وفود الصحابة في الهجرة إلى المدينة , قبل هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم - إليها وبعدها حتى عام الفتح , التي قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم - :" لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا "( ).
هذا تاريخ الهجرة بإيجاز شديد , والمرأة حاضرة في كل فصوله , وشاهدة على مواقفه , روى الحاكم أبو عبد الله في مستدركه عن أُم سلمة رضي الله عنها - أنها قالت : يا رسول الله ، لا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالى : :" فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى "( ) , أي : بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشِبهِ ذلك ( ).
فهذه أم المؤمنين أم سلمة ( )- رضي الله عنها - : "لما أجمع أبو سلمة –رضي الله عنه - الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه , فقالوا: هذه نفسك غلبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها إلى البلاد؟ , قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه ؛ قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة؛ قالوا: لا، والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا؛ قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة؛ قالت: ففرق بيني وبين زوجي، وبين ابني؛ قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت, قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني؛ قالت: فارتحلتُ بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله؛ قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت، حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار؛ فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة؛ قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا قال: والله ما لك من مترك.
فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت عنه أستأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلاً، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.
قال فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة"( ).
إن في هذا الموقف من الآلام ما تنوء بحمله الجبال , وفيه أيضاً من المروءة وسلامة الفطرة , والبطولة , ما يملأ صفحات التاريخ عبراً ..
إن الإيمان إذا ما تمكن من القلب، ( استحال أن يُقدِّم صاحبه على الإسلام والإيمان شيئاً، حتى لو كان ذلك الشيء فلذة كبده، أو شريكة حياته لذا انطلق أبو سلمة - رضي الله عنه - إلى المدينة لا يلوي على أحد، وفشل معه هذا الأسلوب وللدعاة إلى الله فيه أسوة( ).
وهكذا أَثَر الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، فهذه أسرة فُرِّق شملُها، وامرأة تبكي شدة مصابها، وطفل خُلعت يده وحُرم من أبويه، وزوج وأب يسجل أروع صور التضحية والتجرد، ليكون أول مهاجر يصل أرض الهجرة، محتسبين في سبيل الله ما يلقون، مصممين على المضي في طريق الإيمان، والانحياز إلى كتيبة الهدى، فماذا عسى أن ينال الكفر وصناديده من أمثال هؤلاء؟
وأما صنيع عثمان بن طلحة - رضي الله عنه - فقد كان يومئذ كافراً (وأسلم قبل الفتح) ومع ذلك تشهد له أم سلمة - رضي الله عنها - بكرم الصحبة، وذلك شاهد صدق على نفاسة هذا المعدن، وكمال مروءته، وحمايته للضعيف( )، فقد أبت عليه مروءته وخلقه العربي الأصيل أن يدع امرأة شريفة تسير وحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثاله من كفار قريش.
إن هذه القصة- ولها مثل ونظائر- لتشهد أن ما كان للعرب من رصيد من الفضائل كان أكثر من مثالبهم ورذائلهم، فمن ثم اختار الله منهم خاتم أنبيائه ورسله، وكانوا أهلاً لحمل الرسالة، وتبليغها للناس كافة( ).
وتظهر عناية الله تعالى بأوليائه، وتسخيره لهم، فهو جل وعلا الذي سخر قلب عثمان ابن طلحة للعناية بأم سلمة، ولذلك بذل الجهد والوقت من أجلها( ) كما تظهر سلامة فطرة عثمان بن طلحة، التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعل إضاءة قلبه بدأ منذ تلك الرحلة، في مصاحبته لأم سلمة رضي الله عنهم( ).
وهذه السيدة أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما- لا يقل دورها في الهجرة عن دور أخواتها الأخريات , فهي كاتمة السر , وحاملة الطعام , وناقلة خبر العدو للنبي – صلى الله عليه وسلم - , وصاحبه , وهي المضحية بوقتها وجهدها في خدمة دينها وأمتها .
أخرج الإمام بن كثير بسنده عن عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها - قالت: كان لا يخطئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بالهاجرة ، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر –رضي الله عنه - ، قال: ما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم- هذه الساعة إلا لأمر حدث.
قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر –رضي الله عنه - عن سريره، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنهم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أخرج عني من عندك" , فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك، فداك أبي وأمي! فقال: " إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة, قالت: فقال أبو بكر –رضي الله عنه -: الصحبة يا رسول الله؟ قال: "الصحبة" , قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ.. ( ).
إن عائشة وأسماء – رضي الله عنهما – شربا من معين الصديق –رضي الله عنه – التربوي , ففي قوله : إنما هما ابنتاي ؛ ثقة , ويقين , أنهما قادرتان على كتمان السر , وعدم إفشائه , وخير دليل على ذلك عندما , وقف أبو جهل أمام منزل الصديق بعد خروجه مع النبي – صلى الله عليه وسلم - في الهجرة , يسأل عن أبيها , فأجابت بأنها لا تدري , ولا تعرف شيئاً , وأدى هذا الموقف مناه أن لطمها حتى أسقط قرطها , وسال الدم من وجهها ..
عن أسماء – رضي الله عنها- أنها قالت: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر – رضي الله عنه – أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا ( ).
وعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه ، قالت: كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إذا كان ترك الكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم ، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك( ).
إنه الفهم الراقي , والرشد والبصيرة النافذة , لم تتمتم في كلامها , ولم تتلعثم في جوابها , بل ألهمت ووقفت حتى صرفت عمرو بن هشام في الموقف الأول, وسكنت جدها وصرفته في الموقف الثاني.
إنها بهذه الحكمة والفهم والرشد سترت دعوة الله , وسترت رسوله – صلى الله عليه وسلم – ( من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفافها فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث النبي - صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه –رضي الله عنهما -، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة، المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان –رضي الله عنهم أجمعين - ( ).
لقد حازت أسماء شرف خدمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه , واستحقت ذات النطاقين عن جداره , فهي المرأة الحامل في أشهرها الأخيرة , تصعد جبلا وعراً ليلاً حتى لا يراها أحد , لتطعم النبي –صلى الله عليه وسلم ووالدها , فعنها - رضي الله عنها - قالت: صنعت سفرة للنبي –صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر –رضي الله عنه - حين أرادا المدينة، فقلت لأبي: ما أجد شيئا أربطه إلا نطاقي، قال: فشقيه، ففعلت، فسميت ذات النطاقين ( ).
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله –صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر – رضي الله عنه - ، وجعلت قريش حين فقدوه مائة ناقة، لمن يرده عليهم، وكان عبد الله بن أبي بكر في قريش نهاره معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر –رضي الله عنه - ، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة –رضي الله عنه -، مولى أبي بكر - رضي الله عنه - يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر –رضي الله عنه - ، فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد الله بن أبي بكر- رضي الله عنهما - غدا من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفى عليه، حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيرهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما، ثم علقتها به ( ).
هذه مواقف وليس موقفا واحدا في الهجرة من أسماء – رضي الله عنها - , زاحمت بهن أكتاف الرجال , ووقفت مرفوعة الرأس وسط حلقات التاريخ وفصوله تشهد الله على أفعالها وخدمة دينها وأمتها , وتعلم شقائقها فنون الفهم والتضحية.
وهذه أم معبد – رضي الله عنها – الكريمة السخية الجوادة , العاقلة الفاهمة الواعية , لا يقل دورها في الهجرة عن دور قريناتها من المسلمات , فلقد جادت بألبن اغنامها , وعندما رأت كرامة نبي الله حكمت عقلها وآمنت , فعن خالد بن خنيس الخزاعي - رضي الله عنه - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج من مكة، وخرج منها مهاجراً إلى المدينة، هو وأبو بكر - رضي الله عنه - ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة - رضي الله عنه - ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء القبة ثم تسقي وتطعم، فسألوهما لحماً وتمراً، ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مُرْمِلين مسنتين فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد؟ , قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: "فهل بها من لبن؟" قالت: هي أجهد من ذلك، قال: "أتأذنين أن أحلبها؟, قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم، إن رأيت بها حلباً فاحلبها.
فدعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح بيده ضرعها، وسمى الله عز وجل، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه، ودرت واجترت ودعا بإناء يُرْبِض الرهط، فحلب فيها ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم ثم أراضوا ، ثم حلب فيها ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.
فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافاً يتساوكن هُزلا ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاة عازب حيال ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه ،حسن الخلق، لم تعبه نحلة ولا تزر به صعلة وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل وفي عنقه سطع وفي لحيته كثاثة، أزج، أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا هذر ولا نزر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربع لا يأس من طول ولا تقتحمه العين من قصر غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود ، لا عابس ولا مُفنَّد.
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. ( ).
هذه مواقف لبعض النساء في هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم - , اختصرنا فيها قدر المستطاع , فيها من الدروس الكثير , وفيها من العبر ما ينفع أمم الأرض .., أسأل الله أن ينفعنا بما كتبنا وأن يجعله في موازين حسناتنا .
الخاتمة والتوصيات :
نستنتج من هذا البحث النتائج والتوصيات الآتية :
1- أن الإسلام انتشل المرأة من جراثيم الجاهلية وأوحالها .
2- لا يوجد دين سماوي ولا قانون وضعي أعطى المرأة من الحرية والمساواة كما أعطى الإسلام المرأة ومنحها .
3- المرأة في رحاب الإسلام نما عقلها , وارتفع شأنها , وعلا فهمها ورشدها , وسبقت غيرها من أمم الأرض قاطبة.
4- المرأة المسلمة صبرت على الأذى واستعذبت العذاب , وأثبتت للتاريخ أنها بنت نسب حقيقي لا بنت تبني .
5- أن المناسبات الإسلامية في العهد المكي أثبتت أن النساء شقائق الرجال في كل المحاور وعلى كافة الأصعدة.
6- تمتعت المرأة باستقلال اقتصادي أتاح لها امتلاك كل سبل الثروة .
7- على العلماء في بلاد المشرق توجيه طلابهم للبحث المنهجي , كل في تخصصه لدراسة مشاركات المرأة في كافة العلوم في المشرق والمغرب .
8- على رجال الأعمال أن يخصصوا أجزاء من أموالهم , وأن يوقفوا بعضاً من ثرواتهم , للدفاع عن تراث أمتنا , وذلك بدعم ونشر مؤلفات الثقات من رجال التاريخ والآثار, أو إنشاء وسائل إعلام حديثة تواكب العصر والتطور , من قنوات فضائية ومجلات ونشرات وإذاعات , وإنشاء مواقع على شبكات التواصل .. , وبذل هذه الأموال في خدمة طلبة العلم وتنقلهم بين المشرق والمغرب بحثا عن الحقيقة العلمية –وخصوصا الشرعية - .
9- توجيه بعض الباحثين لدراسة جوانب العظمة في حياة المرأة في العصور الغابرة , وإبراز انتاجها الفكري والاجتماعي والسياسي والدعوي ..
10- على الباحثين مقاومة كل أساليب التمييز ضد المرأة أيا ما كانت وما كان مصدرها ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق