عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولا : حصار الشعب
من المعلوم يقينا أن الاضطهاد مهما ارتفعت وتيرته , وعلا صوته , واشتدت ضرباته , لا يقتل الدعوات الربانية , ولا يقضي على أتباعها , بل يزيدهم صلابة وقوة ومنعة , يكثر أتباعهم , ويوحد صفهم ؛ وحصار الشعب لون من ألوان الاضطهاد الذي استخدمته قريش ضد النبي – صلى الله عليه وسلم - وآله ودعوته وأصحابه – رضوان الله عليهم – فقد تعاقدوا وتعاهدوا وكتبوا : أن لا ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، وأن يضيقوا عليهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقتل.
لقد قطعت عنهم قريش الميرة ( ) والمادة، وقطعت عليهم الأسواق، فكانوا لا يتركون طعاما يدنو من مكة ولا بيعا إلا بادروا إليه فاشتروه دونهم ليقتلهم الجوع، وكان أبو لهب يدور بين التجار، ويقول لهم: غالوا على أصحاب محمد، حتى لا يدركوا معكم شيئا، وأنا أدفع لكم أضعافا مضاعفة، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع الرجل إلى أطفاله، وهم يتضاغون ( ) من الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم، حتى جهد المؤمنون، ومن معهم جوعا وعريا، وحتى سمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب، واضطروا إلى أكل ورق الشجر والجلود، وهلك منهم من هلك.
أخرج أبو نعيم في الحلية عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال: . . . خرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع بقعقعة تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها، ثم رضضتها ( ) وسففتها بالماء ( )، وشربت عليها من الماء، فقويت بها ثلاثا ( ).
وضيق الحصار على المسلمين، وانقطع عنهم العون، وقل الغذاء حتى بلغ الجهد أقصاه، وسمع بكاء أطفالهم من وراء الشعب، وعضتهم الأزمات العصيبة حتى رثى لحالهم الخصوم، ومع اكفهرار ( ) الجو في وجوههم، فقد تحملوا في ذات الله الويلات ( ).
والمرأة في الشعب نالها ما نال الرجال , من عنت ومشقة , أكلت ورق الأشجار وجلد البعير وما لا يستساغ كما أكلوا , وشربت كما شربوا , وعانت الويلات بعد التضييق عليها اجتماعيا , فما عادت الهاشمية ولا المطلبية تزوج ممن قاطعوها وحاصروها مسلمة كانت أو غير مسلمة , وبالرغم من ذلك لم تضعف ولم تلن ولم تشكوا ولم تتبرم , حتى جاء النصر والفرج من عند الله بعد ثلاث سنوات , وجعل لكل محاصر فرجا ومخرجا , وجاءت البشارات تلو البشارات , تبشر بنصر وفتح قريب .
والذي يدعو إلى العجب انحياز بني المطلب وبني هاشم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم – فنالهم ما نال الصحابة والنبي –صلى الله عليه وسلم - على اختلاف شرائحهم .
والأعجب أننا لم نقرأ أن أحدا من المسلمين رجالا ونساء ساوم على دين الله –رغم الحصار والشدة -, لأن دين الله في قلوبهم وعقولهم ليس صفقة تقبل المساومة "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ).
ثانياً : الإسراء والمعراج
إن الإسراء والمعراج حادثة كبيرة , ومعجزة عظيمة , تحتاج إلى عقول تفكر , وقلوب تؤمن , فقد رسمت للمسلمين آفاق المستقبل , وبينت وكشفت لهم الزاد وأماكن الراحة ومواطنها , ووضحت لهم العقبات والمعوقات وأماكن الشقاء والتعاسة ومعارجها , وكشفت لهم عن معالم الطريق كاملة غير منقوصة..
إن رحلة الإسراء والمعراج وقعت قبل الهجرة بثلاث سنوات وقيل: بعام على الراجح كما قال القاضي عياض( ) , قال الله في شأنها :" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"( ).
والإسراء هو الرحلة الأرضية من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى , والمعراج هو الرحلة السماوية من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى .
والرحلة تعددت رواياتها , وكثر رواتها , وتنوعت مشاهدها , وكثر مكذبوها , وزادت المؤمنين إيمانا بعد تصديقهم وإيمانهم الغيبي بما جاء فيها ..
وإن كان الرجل حاضر بكثرة في مشاهدها وفصولها في الرحلة الأرضية والسماوية على السواء , فقد كانت المرأة حاضرة أيضاً في فصول المعجزة , وآياتها , ما بين زاد أو عقبة من ناحية , وشاهدة وراوية لآياتها من ناحية أخرى..
- فالماشطة واستنشاق عطر عظامها في الرحلة زاد للدعاة المجاهدين , فهي المجاهدة الداعية التي جادت - بأغلى ما تملك - بروحها الطهور وروح أولادها فلذات أكبادها لله رب العالمين , روى أحمد بسنده عن ابن عباس- رضي الله عنهما- ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : " لما كانت الليلة التي أسري بي فيها، أتت عليّ رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها ", قال: " قلت: وما شأنها؟ قال: بينا هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم، إذ سقطت المدرى من يديها، فقالت: بسم الله , فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله , قالت: أخبره بذلك قالت: نعم , فأخبرته فدعاها، فقال: يا فلانة، وإن لك ربا غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله , فأمر ببقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها فيها، قالت له: إن لي إليك حاجة , قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد، وتدفننا , قال: ذلك لك علينا من الحق " , قال: " فأمر بأولادها فألقوا بين يديها، واحدا واحدا، إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مرضع، كأنها تقاعست من أجله، قال: يا أمه، اقتحمي، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت " قال: قال ابن عباس – رضي الله عنهما- : " تكلم أربعة صغار: عيسى ابن مريم - عليه السلام -، وصاحب جريج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون "( ).
إنها رسالة في الثبات على المبدأ من مؤمنة داعية مجاهدة جادت بأغلى ما تملك لله رب العالمين , فخلد الله ذكرها , وإن أذاب فرعون لحمها , وأكلت الأرض عظامها , لقد نالت كرم الله وفضله , وتركت أثراً يُذكر إلى يوم القيامة .
ورحم الله شوقي عندما قال في المتقارب التام :
وخذْ لكَ زادينِ : من سيرة ومن عملٍ صالحٍ يدخرَ
وكن في الطريقِ عفيفَ الخُطا شريفَ السَّماعِ، كريمَ النظر
ولا تخْلُ من عملٍ فوقَه تَعشْ غيرَ عَبْدٍ، ولا مُحتَقَر
وكن رجلاً إن أتوا بعده يقولون : مرَّ وهذا الأثرْ( ).
ويؤكد ذلك رؤياه لثواب المجاهدين، ففي ليلة الإسراء والمعراج مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عادوا كما كان، فأخبر جبريل - عليه السلام - : "هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنات بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يُخلَف"( ).
إنه فضل الله يؤتيه من اجتباه واصطفاه واختصه بهذه المنزلة , يقول الله تعالى :" إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" ( ).
عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يعدل الجهاد في سبيل الله - عز وجل - ؟ قال:" لا تستطيعوه " , قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول :" لا تستطيعونه : , وقال في الثالثة :" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام وصلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى ( ) ؛ وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :"والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله , والله أعلم بمن يكلم في سبيله , إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك "( ) ؛ وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال : مر رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعب في عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها فقال لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب , ولن أفعل حتى استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال:" لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما , ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة , أغزو في سبيل الله ، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ( ).
وعن سعيد ابن المسيب أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول:" والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله , والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله , ثم أحيا , ثم أقتل , ثم أحيا , ثم أقتل , ثم أحيا , ثم أقتل ( ).
وعن المقدام بن معد يكرب – رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة , ويرى مقعده من الجنة , ويجار من عذاب القبر , ويأمن من الفزع الأكبر, ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها , ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين , ويشفع في سبعين من أقاربه ( ).
لو علم هؤلاء الذين يبطشون بخلق الله وينكلون بهم ويبضعون من اجسادهم , فضل الله وثوابه وعطاءه لهم , ما فعلوا ذلك , ولو علموا أن تنكيلهم وضربات سيوفهم , وطعنات رمحهم , وحرق نيرانهم لا قيمة له البتة بجوار هذا الفضل والعطاء , وأن هذا المعذب والمضطهد المحتسب يرى العذاب بمرآة الرضا والصبر ثوابا وعطاء , عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" ما يجد الشهيد من مس القتل الا كما يجد أحدكم مس القرصة( ).
قال إبراهيم بن مهدى السلمى - عن أبيه عن جده – رضي الله عنهم - وكانت له صحبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :" إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله فى جسده أو فى ماله أو فى ولده " , قال أبو داود: زاد ابن نفيل :" ثم صبره على ذلك " , ثم اتفقا :" حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى "( ).
أما الموقف الثاني:
فهو موقف في بقعة ننتظرها , ونتعبد لله من أجل نيلها والوصول إليها , إنها الجنة التي فتحت أبوابها له في رحلة المعراج , قال النبي –صلى الله عليه وسلم - :" ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك"( ), وفي رواية : " فسمع من جانبها وجسا قال : يا جبريل ما هذا ؟ قال : هذا بلال "( ) , وفي رواية أخرى : قال :" فسمعت خشفة فقلت ما هذه الخشفة ؟ فقيل : الرميصاء بنتُ ملحان امرأةُ أبي طلحة"( ) , "وبينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بقصرٍ أبيضَ فقلت : لمن هذا يا جبريل ؟ ورجوت أن يكون لي , فقال : لعمر بن الخطاب , ثم سرت هنيهة فرأيت قصراً هو أحسنُ من القصرِ الأول ؛ من ذَهَبٍ ، مربعاً يُسمع فيه ضوضاءٌ ، بفَنائه جاريةٌ تتوضأُ إلى جانبِ القصرِ فقلت : لمن هذا القصر يا جبريل ؟ ورجوت أن يكون لي ؟ فقالوا : لرجلٍ من أمةِ محمد , قلت : فأنا محمد ، لمن هذا القصرُ ؟ قالوا : لرجلٍ من العرب , قلت : أنا عربيٌّ لمن هذا القصر ؟ قالوا : لشابٍ من قريش , قال : فظننت أني أنا هو ، فقلت : أنا قرشي ، لمن هذا القصر , قالوا : لعمرَ بنِ الخطاب وإن فيه من الحور العين ، فأردتُ أن أدخلَه فأنظرَ إليه فذكرتُ غيرتَه ، فوليتُ مُدبِراً "( ).
من خلال هذه الروايات يتضح لنا أن المرأة بجوار الرجل في حنة الرحمن هكذا رآها – صلى الله عليه وسلم – لقد سمع خشفة الرميصاء أم أنس – رضي اله عنهما – بجوار رؤياه لقصر عمر , وسماعه وجس بلال – رضي الله عنهم أجمعين –
وكأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يبعث برسالة إلى أمته , عار على الرجال أن يتركوا الجنة للنساء يستأثرن بها دونهم , وعار على النساء أن يتركن الجنة للرجال يستأثروا بها دونهن. ومن العيب أن لا توجد امرأة لنفسها مكانا بين الرجال في جنة "عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " , عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" يقول الله تعالى: يا آدم ,فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك , فيقول: أخرج بعث النار , قال: وما بعث النار ؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين , فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ؛ قالوا : يا رسول الله وأينا ذلك الواحد ؟ , قال :" أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا" , ثم قال :"والذي نفسي بيده إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " , فكبرنا , فقال :" أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " , فكبرنا , فقال:" أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " , فكبرنا , فقال:" ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود "( ).
ماذا رأى العصاة من شريعة الله حتى يزهدوا في ثمار العمل بها ونتاجه؟
لقد خابت وخسرت من لم تحجز لنفسها موضعا وقصرا وسط هذا النصف , وخاب ورب العزة من لم يحجز لنفسه موطنا وقصراً مشيدا , وسط هذا النصف .
وهناك زاد مشترك يصل بالعبد إلى مراده ومعالم طريقه التي رسمتها له الرحلة المباركة , كالصلاة , والذكر , والصدقة , والمسجد , والفطرة ومشاهدها كثيرة ليس هذا موطنها .
أما العقبات والمعوقات فهي كثيرة :
فهناك عقبات في طريق حياتنا الاجتماعية , ومعوقات في طريق حياتنا الاقتصادية , وأشواك في طريق حياتنا الدعوية والتربوية ..
فإذا تنكبت الأمة ووقعت في العقبات , واقترفت المنكرات لن تصل البتة إلى المعالم التي رسمتها لهم الإسراء .
فداعي اليهود عقبة , وداعي النصارى عقبة , والخمر والماء بمعناهما المعنوي عقبتان في طريق الأمة رجالها ونساؤها , وإبليس عقبة ..
عن أبي سعيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه" , قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال:" فمن"( ).
ومما جاء في حديث الإسراء مما لم يذكره ابن إسحاق في مسند الحارث بن أبي أسامة أنه - عليه السلام - ناداه مناد وهو على ظهر البراق يا محمد فلم يعرج عليه ثم ناداه آخر يا محمد يا محمد ثلاثا ، فلم يعرج عليه ثم لقيته امرأة عليها من كل زينة ناشرة يديها ، تقول يا محمد يا محمد حتى تغشته فلم يعرج عليها ، ثم سأل جبريل عما رأى ، فأخبره فقال أما المنادي الأول فداعي اليهود لو أجبته لتهودت أمتك ، وأما الآخر فداعي النصارى ، ولو أجبته لتنصرت أمتك ، وأما المرأة التي كان عليها من كل زينة فإنها الدنيا لو أجبتها لآثرت الدنيا على الآخرة( ).
الدنيا بهذه الصورة عقبة لا تنفع من تعلق بها فصدته عن سبيل الله , أما من استخدمها لتحقيق خلافة الله في الأرض , وتعميرها بالحق والعدل , ونشر الخير والرحمة والفضيلة , فهي لا شك سبيل خير إلى معالم الدنيا , ورحمة الله إلى الآخرة , وفي ذلك يقول الله تعالى : " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ) , ويقول:" يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" ( ).
لقد جاءت الدنيا في صورة عجوز لتدل على سرعة زوالها , وانقضائها , فمهما عمر الإنسان فيها فهو راحل وهي راحلة .
ويدل هذا المشهد أيضاً : أن أكبر فتنة تضل المرأة هي الدنيا , وأكبر فتنتين تضل الرجال هما : النساء , والدنيا معاً , ولذلك قرنهما النبي – صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد , فعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال:" إن الدنيا حلوة خضرة , وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون , فاتقوا الدنيا واتقوا النساء , فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" , وفي حديث بشار:" لينظر كيف تعملون"( ).
فالدنيا عقبة لمن لم يستخدمها في إقامة سنن الله في كونه , وسنن الله لا تحابي أحداً حتى ولو كان أعبد العابدين وأزهد الزاهدين من المتواكلين .
لقد وقفت الأمة تتغنى بمشاهد الإسراء , وهي تأكل الحلوى , وتنسج الشعر وتغزله , وتلقي الكلمات الرنانة , في حين تركت ميدان العمارة والسعي , فصفع الغرب ناصيتها وركل مؤخرتها , واحتل أرضها , وأكل خيراتها , واستباح عرضها , وذلك بسبب تخليها عن سنن الله الكونية , فها هي في سوريا واليمن والعراق , وفلسطين , والعراق , وغيرها من بلداننا العربية والإسلامية , تبكي ماض مجيد ضاع منها .
العقبة الثانية :
ومن المشاهد التي رآها عقبات في طريق المسلمين بشكل عام والمسلمات بشكل خاص وهي في أغلبها عقبات في طريق الحياة الاجتماعية : الفاحشة , ومنع الولد من الرضاعة , وخيانة الزوج , والغيبة والنمية , وقطع الطرق ..
قال – صلى الله عليه وسلم - :" ثم رأيت نساء معلقات بثديهن , فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ , قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم , قال ابن إسحاق : وحدثني جعفر بن عمرو ، عن القاسم بن محمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال:" اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم , فأكل حرائبهم واطلع على عوراتهم"( ).
وعن أبي أمامة – رضي الله عنه -، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"بينا أنا نائم إذ أتيت فانطلق بي إلى جبل وعر، فقيل اصعد، فقلت: إني لست أستطيع الصعود، قال: أنا سأسهله لك، قال: فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل، إذ أنا بأصوات، فقلت: ما هذه الأصوات؟ قيل: هذه أصوات جهنم، ثم انطلق بي حتى مررت بقوم أشد شيء انتفاخا، وأسوئه منظرا، وأنتنه ريحا ريحهم ريح المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قيل: هؤلاء الزانون والزواني، ثم انطلق بي حتى مر بي على نسوة معلقات بثديهن، تنهش بهن الحيات، قلت: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء اللواتي يمنعن أولادهن ألبانهن"( ).
أما عن العقبات المشتركة بين الرجال والنساء في الحياة الاجتماعية
فتتمثل في المشاهد التالية :
من تخلت عن عفتها , وتركت ما أحل الله لها , وذهبت إلى ما حرم الله عليها من الخبيثين من الرجال , رآها النبي – صلى الله عليه وسلم – خبيثة , تحت خبيث.
قال :"ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج،ولحم آخر نيء خبيث فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب،قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الرجل من أمتك يقوم من عند امرأته حلالاً فيأتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح ، والمرأة تقوم من عند روجها حلالاً طيباً فتأتي الرجل الخبيث فتبيت عنده حتى تصبح( ).
وصدق الله إذ يقول :" الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ).
لقد حرم الله هذه الفعلة القبيحة على المؤمنين من الرجال والنساء على السواء , قال ربنا – سبحانه وتعالى - :" الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ).
فالله الذي حرمها على المؤمنين صرفها عن نبيه يوسف – عليه السلام :" كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( ) ؛ وذلك بعد أن حمل هماً وهمة , وإلحاحاً على الله في الدعاء , وعزماً وعزيمة , قال ربنا – سبحانه وتعالى :" قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ).
إن من حطم شباك الفاحشة وقع فيها , ومن حافظ على شباكها , حفظه الله ورعاه , وشباكاها : غض البصر , وعدم الخلوة , وارتداء الملابس الواسعة التي لا تشف بالنسبة للمرأة, وارتداء الحجاب , وعدم الاختلاط إلا بضوابطه , وعدم ابداء الزينة , قال تعالى:" قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ) .
- خطباء الفتنة وهي عقبة دعوية يشترك فيها الرجال والنساء على السواء
قال : "ثم أتى على قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء قال: يا جبريل ما هؤلاء؟ قال: خطباء الفتنة( ).
وخطباء الفتنة من الرجال والنساء أضر على الأمة من ألف مدفع , فهم يدمرون العقول والقلوب , ويصلون إلى كل الشرائح وخصوصا إذا كان عندهم لحن القول , ولذلك جاء الجزاء من جنس العمل , فاللسان الذي حرف قول وقول رسوله –صلى الله عليه وسلم - , قرض بمقارض من نار , عن أسامة –رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم - يقول :" يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه , فيجتمع أهل النار عليه , فيقولون: أي فلانا ما شأنك ؟ أليس كنت تأمرننا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه"( ).
- الخيانة وعدم المقدرة على رد الأمانة
قال : "ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها هو يريد أن يزيد عليها فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة الناس لا يستطيع أداءها وهو يزيد عليها"( ).
إن حمل الأمانة تكليف وليس تشريف , والله يأمر من حملها أن يؤديها كما حملها غير منقوصة ولا مشوهة , قال تعال:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا "( ).
قيمة الكلمة وخطورتها:
قال:"ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع"( ).
ولذلك أمر ربنا الإنسان أن ينتقي أفضل كلماته إذا أراد التحدث , قال تعالى:" وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا" ( ).
وشبه الكلمة الطيبة من القول بالشجرة الطيبة , فقال تعالى:" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ" ( ).
وقال النبي –صلى الله عليه وسلم – ناصحا معاذا –رضي الله عنه -:" قال كف عليك هذا فقلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به ؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"( ).
- قطع الطريق وعدم إعطائه حقه:
قال : ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته ، قال :" ما هذا يا جبريل ؟ " ، قال : هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ، ثم تلا : "وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا"( ).
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" إياكم والجلوس بالطرقات ", فقالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها , فقال :" فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " , قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال:" غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( ).
العقبات التعبدية , ويشترك فيها الرجال والنساء على السواء:
الافطار في رمضان:
قال:"ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم" ( ).
التثاقل عن الصلاة:
قال:"ثم أتى على قوم ترضخ (الرضخ: الدق والكسر) رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت،ولا يفتر عنهم من ذلك شيء،قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة"( ).
ترك الزكاة:
قال:"ثم أتى على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم (الضريع: نبت بالحجاز له شوك كبار،والزقوم: نبات في البادية له زهر ياسميني الشكل - كما في النهاية والقاموس) ورضف (الرضف: الحجارة المحماة) جهنم، قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد"( ).
إن هذه المشاهد التحذيرية للأمة , تلفت انتباههم أن التفريط في عباداتهم , سيجعلهم لقمة سهلة لعدوهم من الإنس والجن على السواء , وإن أرادوا تحصينا لأنفسهم وأموالهم فعليهم بالالتزام بآدائها في وقتها على وجهها الذي أمر الله به , يقول ربنا:" وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ).
إن هذه العبادات زاد المؤمنين في حياتهم الاجتماعية , والاقتصادية , والحربية , والسياسية , ففيها الراحة والأمان , يقول تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ "( ).
وإن هذه العبادات آداؤها شمولي تكاملي , فلا ينبغي لرجل أو امرأة أن يقول آمنت بالصلاة وكفرت بالصوم , أو سأحج ولكني لن أزكي , يقول ربنا سبحانه :" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ"( ).
وعن أبي المثنى العبدي، قال: سمعت السدوسي يعني ابن الخصاصية-رضي الله عنه -، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبايعه، قال: فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم شهر رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله , فقلت: يا رسول الله، أما اثنتان ، فوالله ما أطيقهما: الجهاد والصدقة، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر، فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت تلك جشعت نفسي، وكرهت الموت، والصدقة فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود، هن رسل أهلي وحمولتهم, قال: فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يده، ثم حرك يده، ثم قال: " فلا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذا؟ " قال: قلت: يا رسول الله، أنا أبايعك , قال: فبايعته عليهن كلهن" ( ).
- أما عن العقبات الاقتصادية فكثيرة , من مشاهدها على سبيل المثال:
صفة أكلة أموال اليتامى من الرجال والنساء , وإن ذكرت الرواية الرجال فهو للتغليب .
قال :"ثم رأيت رجالاً لهم مشافر كمشافر الإبل في أيديهم قطع من نار كالأفهار يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم , فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما "( ).
إن أمة يؤكل حق الضعيف بين أفرادها لهي أمة مهزومة لا محالة , كيف لا والضعيف يُستنصر ويسترزق به في ساعة الشدائد , يقول تعالى محذراً :" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"( ).
ويقول تعالى :" وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"( ).
إن الذي يعتدي على مال الضعفاء من اليتامى والأرامل يوبق نفسه , ويوردها المهالك , ويفسد على نفسه حياته وحياة من يرعاه ويكفله , عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" اجتنبوا السبع الموبقات " , قالوا: يا رسول الله وما هن ؟ قال :" الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات "( ).
صفة أكلة الربا من الرجال والنساء:
قال :" ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك , قال قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء أكلة الربا"( ).
قال تعالى:" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" ( ).
ويقول :" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ "( ).
إن آكل الربا يحارب الله – عز وجل – ورسوله – صلى الله عليه وسلم - , ومن حارب الله ورسوله , سلط الله – عز وجل عليه جنوده , فأهلكت ماله , وسلبت بركته يقول ربنا سبحانه :"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ( ).
وعن جابر –رضي الله عنه - قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء "( ).
إن هذه الأرجاس والعقبات مجتمعة , لو اجتمعت في أمة لأهلكتها , ولذلك جاءت كرسائل تحذيرية في بداية مرحلة جديدة من عمر الدعوة والأمة وهي مقبلة على بناء دولتها الوليدة في المدينة المطهرة .
إن المعاصي سبب المصائب والمآسي فهي تقصم الأعمار وتحبس الأمطار، وتخرب الديار, قال تعالى:" وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ"( ).
وجاء في الحديث: عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما – قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال :" يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن :لم تظهر الفاحشة في قوم قط , حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا , ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم , ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا , ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما بأيديهم , وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"( ).
إن الذنوب هي التي أغرقت قوم نوح بالطوفان , وأطبقت على فرعون وجنوده البحر, وسلَّطت الريح العقيم على عاد، وأرسلت الحاصب وأمطرت الحجارة على قوم لوط , وقَلَبت عليهم عالي البلاد سافلها, وهي التي خسفت بقارون , وأمطرت النار المحرقة والصيحة على قوم شعيب .
وما نشاهده اليوم من العقوبات في بعض البلدان لهو أكبر زاجر وواعظ ، حروب ودمار وشتات وفرقة وتناحر وزلازل وأعاصير وبراكين وفيضانات، وصدق الله: "فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ "( ) , وقال تعالى : " قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ"( ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق