عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بيعة العقبة الكبرى
كانت بيعة العقبة في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة ـ يونيو سنة 622م ـ حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب،جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم ـ وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق : حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف ؟
فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - اتصالات سرية أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل ( ).
قال كعب بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - : خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر- رضي الله عنهما- ، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له : يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدًا , ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة - ، قال : فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا ( ).
أخرج الإمام الشيباني بسنده في الآحاد والمثاني عن طلحة بن خراش السلمي قال : سمعت جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - ، يقول : فأوحى الله تعالى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة أن اختر منهم اثني عشر نقيبا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يغضبن رجل أخذت غيره ، فإنما يشير إليهم جبريل - عليه السلام - رجلا رجلاً ، فأخذ من بني سلمة : البراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، ومن بني عوف بن الخزرج : عبادة بن الصامت ، ومن بني الحارث بن الخزرج : عبد الله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، ومن بني ساعدة : سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، ومن بني النجار : أبا أمامة أسعد بن زرارة ، ومن بني زريق : رافع بن مالك ، وفي الأوس من بني عبد الأشهل : أبو الهيثم بن التيهان وأسيد بن حضير ، ومن بني عمرو بن عوف : سعد بن خيثمة( ).
وكما أن للرجل حضور فكذلك كانت المرأة حاضرة , لها عهدها وبيعتها , بايعت كما بايع الرجال , والتزمت بنودها كما التزموها..
فبايعت نسيبة بنت كعب بن عمرو من بني مازن بن النجار وهي أم عمارة قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد بن عاصم ، شهدت بيعة العقبة وبيعة الرضوان ، وشهدت يوم اليمامة ، وباشرت القتال بنفسها ، وشاركت ابنها عبد الله في قتل مسيلمة فقطعت يدها ، وجرحت اثني عشر جرحا ، ثم عاشت بعد ذلك دهرا ، وكانوا يأتونها بمرضاهم لتستشفي لهم فتمسح بيدها الشلاء على العليل وتدعو له , فقل ما مسحت بيدها ذا عاهة إلا برئ , وبايعت أم شبات فقد شهدت العقبة وكانت على رحال القوم وهي ابنة سباع أسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي من بني سواد بن غنم بن كعب بن سلمة وهي أم منيع بن عمرو ومن بني زريق بن رافع بن مالك, ويروى أن أم عمارة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى للنساء شيئا ، فأنزل الله تعالى : " إن المسلمين والمسلمات " ( ).
إن هذه البيعة ليست بيعة على رحلة خلوية ترفيهية , وليست بيعة على مجرد نقلة من الخراب إلى العمران , ومن التفرق إلى الوحدة , إنها بيعة حربية , من وراء بنودها قتل الأشراف ونهكة الأموال , وبالرغم من ذلك بايعت المرأة كما بايع الرجل لأنها أبصرت من وراء بنودها مقاصد , ومن وراء شروطها مفاوز وغنائم , قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري ، أخو بني سالم بن عوف – رضي الله عنه - : يا معشر الخزرج ، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم قال إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس , فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله - إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة , وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة , قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال: " الجنة " ؛ قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده فبايعوه . وأما عاصم بن عمر بن قتادة فقال والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعناقهم ( ).
إن هؤلاء النسوة ببيعتهن ترجلن , فعندما تبايع على أن تمنع رسول الله –صلى الله عليه وسلم - مما يمنع منه الرجال الأزر فقد ترجلت , في وقت تدنت فيه أخلاق قوم نابذوه وأشاعوا حوله الأراجيف , وعذبوه وعذبوا أصحابه , وقتلوا بعضهم تحت وطأة التعذيب , بل عندما تبايع على الدم والهدم فليس بعد الموت شيء إلا الجنة أو النار , ولذلك أسرعن وبايعن بعد سماعهن , فمالنا إن وفينا ؟ , قال : " لكم الجنة".
قال السهيلي في بيان بعض ألفاظ البيعة : قول البراء بن معرور : نبايعك على أن نمنعك مما نمنع منه أزرنا , أراد نساءنا ، والعرب تكني عن المرأة بالإزار وتكني أيضا بالإزار عن النفس وتجعل الثوب عبارة عن لابسه كما قال:
رموها بأثواب خفاف فلا ترى ... لها شبها إلا النعام المنفرا
أي بأبدان خفاف فقوله مما نمنع أزرنا يحتمل الوجهين جميعا ، وقد قال الفارسي في قول الرجل الذي كتب إلى عمر من الغزو يذكره بأهله:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قال الإزار كناية عن الأهل وهو في موضع نصب بالإغراء أي احفظ إزاري ، وقال ابن قتيبة : الإزار في هذا البيت كناية عن نفسه ومعناه فدا لك نفسي ، وهذا القول هو المرضي في العربية والذي قاله الفارسي بعيد عن الصواب لأنه أضمر المبتدأ وأضمر الفعل الناصب للإزار ولا دليل عليه لبعده عنه وبعد البيت ما يدل على صحة القول المختار وهو:
قلائصنا هداك الله مهلا ... شغلنا عنكم زمن الحصار
فنصب قلائصنا بالإضمار الذي جعله الفارسي ناصبا للإزار .
وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمبايعين له " بل الدم الدم والهدم الهدم وقال ابن هشام : الهدم بفتح الدال , قال ابن قتيبة : كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار دمي دمك وهدمي هدمك ، أي ما هدمت من الدماء هدمته أنا ، ويقال أيضا : بل اللدم اللدم والهدم الهدم ، وأنشد : ثم الحقي بهدمي ولدمي
فاللدم جمع لادم وهم أهله الذين يلتدمون عليه إذا مات وهو من لدمت صدره إذا ضربته , والهدم قال ابن هشام : الحرمة وإنما كنى عن حرمة الرجل وأهله بالهدم لأنهم كانوا أهل نجعة وارتحال ولهم بيوت يستخفونها يوم ظعنهم فكلما ظعنوا هدموها ، والهدم بمعنى المهدوم كالقبض بمعنى المقبوض ثم جعلوا الهدم وهو البيت المهدوم عبارة عما حوى ، ثم قال هدمي هدمك أي رحلتي مع رحلتك أي لا أظعن وأدعك وأنشد يعقوب:
تمضي إذا زجرت عن سوأة قدما ... كأنها هدم في الجفر منقاض( ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق