عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعددت معاني الغلو في الاصطلاح على النحو التالي:
المعنى الأول: عرفه ابن تيمية بقوله:والغلو مجاوزة الحد , بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق, ونحو ذلك( ).
المعنى الثاني: عرفه ابن حجر بقوله: وأما الغلو: فهو المبالغة في الشيء, والتشديد فيه بتجاوز الحد, وفيه معنى التعمق( ).
المعنى الثالث : مجاوزة الحد في كل شيء ( ) .
المعنى الرابع : التعمق , أو الإفراط , أو مجاوزة الحد في الأقوال والأعمال( ).
المعنى الخامس : تحميل الأقوال , أو الكلمات فوق ما تحتمل , والتنطع بهذا المعنى يساوي الغلو , كما يساوي التشدد في الدين( ).
المعنى السادس : يقول العلامة محمد رشيد رضا ( ) :الغلو : الإفراط وتجاوز الحد في الأمر( ).
المعنى السابع : وعرف الشيخ أبو زهرة الغلو بأنه : تجاوز الحد ، وهو في الدين التعصب له ، والتشدد فيه ، وتجاوز الحد في أداء ما يطلب كالانهماك في العبادة كما كان يفعل بعض المتشددين في دينهم الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ) , في قوله- صلى الله عليه وسلم- :" إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" .( ) , وقوله – صلى الله عليه وسلم- : " إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه , فسددوا وقاربوا وأبشروا"( ).
المعنى الثامن : هو تجاوز الحد سلباً أو إيجاباً( ).
المعنى التاسع :الانهماك في الطاعات , وحرمان البدن حقه من الراحة والطيبات( ).
المعنى العاشر : التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر( ).
من خلال ما سبق من تعريفات لغوية واصطلاحية يتبين لنا أن الغلو هو: الانحراف من الحقيقة والجوهر إلى الشكل والمظهر , ومن العطاء والعمل إلى الكلام والجدل ,ومن العقلانية العملية إلى العاطفية , ومن الرؤوس والأصول إلى الفروع والذيول , ومن التيسير والتبشير إلى التعسير والتنفير , ومن الاجتهاد والتجديد إلى الجمود والتقليد , ومن التسامح والانطلاق إلى التعصب والانغلاق , ومن الوسطية والاعتدال إلى التفريط والانحلال , ومن الرفق والرحمة إلى العنف والنقمة , ومن الائتلاف والتضامن إلى الاختلاف والتشرذم .
ومما يميز هذه التعريفات اللغوية والاصطلاحية : أن النصوص الشرعية لا تكاد تخرج عن هذه المعاني , ففي القرآن الكريم يقول الله - تعالى - ناهياً أهل الكتاب عن تحريف عقيدتهم , والغلو في دينهم : ]يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [( ) , ويقول - تعالى - : ] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [( ) , وشدد النكير على من غالى فحرم الطيبات قال تعالى في القرآن المكي: ] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُم عِنْدَ كلِّ مسجدٍ وكُلوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنّه لَا يُحبُّ المُسرفين قُلْ مَنْ حرّمَ زِينَةَ اللهِ التِي أَخْرَجَ لِعبادهِ والطّيِّبات من الرِّزْق ِ[ ( ) ,ويخاطب جماعة المؤمنين بقوله: ] يا أيُّها الّذِين آمَنُوا لا تُحرِّموا طيِّباتِ ما أحلّ اللهُ لَكُم وَلَا تَعْتَدُوا إنّ الله لا يُحبُّ المُعْتَدِين وَكُلوا ممَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حلالاً طيِّباً واتّقوا اللهَ الذِي أنْتُم بِهِ مُؤمِنون [( ).
والسنة النبوية لا تكاد تخرج عن هذه المعاني , ففي الحديث عن ابن عباس – رضي الله عنهما - : أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - , فقال : يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء , وأخذتني شهوتي , فحرمت علي اللحم , فأنزل الله :] يا أيُّها الّذِين آمَنُوا لا تُحرِّموا طيِّباتِ ما أحلّ اللهُ لَكُم وَلَا تَعْتَدُوا إنّ الله لا يُحبُّ المُعْتَدِين وَكُلوا ممَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حلالاً طيِّباً [( ).
وعن أنس – رضي الله عنه - أن نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – سألوا عن عمله في السر ؟ فقال بعضهم : لا أتزوج النساء , وقال بعضهم: لا آكل اللحم , وقال بعضهم: لا أنام على فراش , فحمد الله وأثنى عليه , فقال :" ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ؟ لكني أصلي وأنام , وأصوم وأفطر , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني".( ) , يقول الإمام الصنعاني ( ) – رحمه الله تعالى- : وهو دليل على أن المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الانهماك والإضرار بالنفس ، وهجر المألوفات كلها ، وأن هذه الملة المحمدية مبنية شريعتها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير ]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [( ) ,قال الإمام الطبري –رحمه الله -:في الحديث الرد على من منع استعمال الحلال من الطيبات مأكلاً وملبساً قال القاضي عياض:هذا مما اختلف فيه السلف فمنهم من ذهب إلى ما قاله الإمام الطبري ،ومنهم من عكس، واستدل بقوله تعالى : ] أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا [ ( ) ,قال : والحق أن الآية في الكفار ، وقد أخذ النبي – صلى الله عليه وسلم - بالأمرين ، والأولى التوسط في الأمور ، وعدم الإفراط في ملازمة الطيبات فإنه يؤدي إلى الترفه والبطر ، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات فإن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحياناً فلا يستطيع الصبر عنه فيقع في المحظور كما أن من منع من تناول ذلك أحياناً قد يفضي به إلى التنطع ، وهو التكلف المؤدي إلى الخروج عن السنة المنهي عنه ، ويرد عليه صريح قوله - تعالى - : ] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ [ ( ) ,كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يؤدي إلى الملل القاطع لأصلها ، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلاً ، وترك النفل يفضي إلى البطالة ، وعدم النشاط إلى العبادة وخيار الأمور أوسطها ، وأراد - صلى الله عليه وسلم - بقوله:"فمن رغب عن سنتي " عن طريقتي " فليس مني " أي ليس من أهل الحنفية السهلة , بل الذي يتعين عليه أن يفطر ليقوى على الصوم وينام ليقوى على القيام ، وينكح النساء ليعف نظره وفرجه ، وقيل : إن أراد من خالف هديه - صلى الله عليه وسلم - ، وطريقته أن الذي أتى به من العبادة أرجح مما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - ,فمعنى ليس مني أي ليس من أهل ملتي لأن اعتقاد ذلك يؤدي إلى الكفر( ) , ويقول الإمام ابن حجر العسقلاني : المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض ، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره ، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني ، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه ، وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنيفية السمحة , فيفطر ليتقوى على الصوم , وينام ليتقوى على القيام , ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل ؛ وقوله:" فليس مني" إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه , فمعنى " فليس مني " أي على طريقتي ولا يلزم أن يخرج عن الملة ,وإن كان إعراضاً وتنطعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فمعنى ,فليس مني ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر( ).
وفي الحديث تحذير لهم خوفاً من أن يقعوا فيما وقع فيه أتباع نبي الله عيسى - عليه السلام - , حيث ألان الله قلوبهم وجعل فيها رأفة ورحمة , فكان يواد بعضهم بعضاً , فغيروها وابتدعوا فيها , يقول الإمام القرطبي – رحمه الله - في قوله : ] وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [ ( ): أي من قبل أنفسهم.. فحملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا... قال الضحاك: إن ملوكاً بعد عيسى - عليه السلام - ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى-عليه السلام- فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع..., وقال قتادة – رحمه الله - : الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع( ) .
ولذلك كانت دعوات النبي - صلى الله عليه وسلم – متوازنة : "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي " ( ) , وقال : "إنّ لبدنك عليك حقًّا "( ).
يقول ابن مسعود - رضي الله عنه- : والذي لا إله إلا هو، ما رأيت أحداً كان أشد على المتنطعين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما رأيت أحداً كان أشد عليهم من أبي بكر- رضي الله عنه - ، وإني لأرى عمر- رضي الله عنه - كان أشد خوفاً عليهم، أو لهم( ).
وعن أبي قلابة ( ) قال : قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - : عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب بأصحابه ، عليكم بالعلم، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده، إنكم ستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وإياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق ( ) ؛ ويقول مسروق ( ): كنت أمشي مع أبي بن كعب –رضي الله عنه-، فقال فتى: ما تقول يا عماه، كذا، وكذا، فقال: يا ابن أخي، أكان هذا؟ قال: لا، قال: فاعفنا حتى يكون( ).
ويقول الصلت بن راشد( ): سألت طاووساً ( ) عن مسألة، فقال لي: كان هذا؟ قلت: نعم، قال: آلله؟ قلت: آلله، ثم قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه -، أنه قال: أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم هنا وهنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد، وإذا قال وفق( ).
وعن محارب بن دثار( ) سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - قال : أقبل رجل من الأنصار ومعه ناضحان له وقد جنحت الشمس , ومعاذ يصلي المغرب , فدخل معه الصلاة , فاستفتح معاذ البقرة أو النساء , فلما رأى الرجل ذلك صلى ثم خرج , قال : فبلغه أن معاذاً نال منه , قال حجاج ينال منه , قال : فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - , فقال :" أفتان أنت يا معاذ , أفتان أنت يا معاذ , أو فاتن فاتن فاتن " , وقال حجاج : "أفاتن أفاتن أفاتن , فلولا قرأت سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها , فصلى وراءك الكبير وذو الحاجة والضعيف " , أحسب محارباً الذي يشك في الضعيف"( ).
لعل هذه النصوص إذا قرناها بالتعريفات اللغوية والاصطلاحية كشفت لنا عن مظاهر المنبت الذي قتل ظهره , فتأخر في وصوله ؛ المتعجل في تبليغه , الذي لم يكتمل فهمه , ولم ينضج فكره , ولم يمتلك مفاتيح العلم بعد ؛ الذي يتعصب لرأيه ورايته, ويربط الحق بهما ؛ يبالغ في استخدام العزائم , ويقدم المتغيرات على الثوابت ؛ يهتم بالنافلة على حساب الفريضة ؛ يكثر الإساءة والظن بالآخرين .
إننا من خلال هذه النصوص التي جاءت في القرآن الكريم والسنة المطهرة , يتبين لنا أن الإسلام ينفر من الغلو والغالين , والتنطع والمتنطعين , والجمود والجامدين , والجحود والجاحدين , ويخوف ويحذر من الوقوع في هذه الآفات أشد تحذير وتخويف , لأن الواقع فيها يخسر دينه ودنياه جميعاً , عن عبدالله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"هلك المتنطعون , قالها ثلاثاً "( ).
أسباب الغلو :
1- ( أن يعتقد الإنسان في نفسه , أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين - ولم يبلغ تلك الدرجة - فيعمل على ذلك ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع وتارة يكون في كلى وأصل من أصول الدين - كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية - فتراه آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له بادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصده وهذا هو المبتدع وعليه نبه الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم – قال:" لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس , ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً , فسئلوا , فأفتوا بغير علم , فضلوا وأضلوا "( ) , قال بعض أهل العلم: تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم . فيؤتى الناس من قبله , وقد صرف هذا المعنى تصريفاً , فقيل: ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان .
قال: ونحن نقول :ما ابتدع على قط ولكنه استفتى من ليس بعالم .
قال مالك بن أنس – رضي الله عنه - : بكى ربيعة يوماً بكاء شديداً , فقيل له: مصيبة نزلت بك , فقال:( لا ولكن استفتى من لا علم عنده )( ).
2- ( ضعف البصيرة بحقيقة الدين، وقلة البضاعة في فقهه ، والتعمق في معرفة أسراره، والوصول إلى فهم مقاصده ، واستشفاف روحه. . وليس معنى ذلك : الجهل المطلق بالدين، فهذا في العادة لا يفضي إلى غلو وتطرف، بل إلى نقيضه، وهو الانحلال والتسيب، وإنما المعني به : نصف العلم، الذي يظن صاحبه به أنه دخل في زمرة العالِمين، وهو يجهل الكثير والكثير، فهو يعرف نتفاً من العلم من هنا وهناك وهنالك، غير متماسكة، ولا مترابطة، يُعنى بما يطفو على السطح، ولا يهتم بما يرسب في الأعماق، وهو لا يربط الجزئيات بالكليات، ولا يرد المتشابهات إلى المحكمات، ولا يحاكم الظنيات إلى القطعيات، ولا يعرف من فنون التعارض والترجيح ما يستطيع به أن يجمع به بين المختلفات، أو يرجح بين الأدلة والاعتبارات)( ).
3- ( البيئة : فقد ينشأ الإنسان في بيئة شأنها الغلو، أو التنطع سواء أكانت بيئة قريبة،- البيت - ، أم بيئة بعيدة، - مجتمع الأصحاب، والأصدقاء -، وليست لديه حصانة فكرية، فيحاول الاقتداء، والتأسي، أو على الأقل المحاكاة والتشبه، وحينئذ يقع في آفة التنطع أو الغلو)( ).
4 – ( قد يكون التكوين النفسي والفكري لنفر من الناس من وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، كأن يحرم هؤلاء من المربي أو الموجه الذي يرشدهم، ويوجههم إلى بعد النظر، واتساع الأفق، فينشئون على الوقوف عند الشكليات والقشور، مهملين اللباب والجوهر، وذلك هو عين التنطع، أو الغلو)( ).
5 – ( الذكاء مع الفراغ، وعدم البصيرة بالأولويات : وقد يمن الله - عز وجل - على إنسان ما، بقدر من الذكاء الفطري ولكنه يعيش في فراغ، مع عدم البصيرة بالأولويات، ويحاول - شأنه شأن أي إنسان آخر - توظيف هذا الذكاء، وشغل ذلك الفراغ، وحينئذ يكون فريسة آفة التنطع، أو الغلو، إذ أن من سمات النفس البشرية أن صاحبها إن لم يشغلها بالحق، شغلته بالباطل)( ).
6 - الاعتماد على النفس من أول الأمر في تحصيل العلم، أو المعرفة: وقد تكون لدى المسلم الرغبة في تحصيل العلم، أو المعرفة، ولا دراية له بالطريق فيأخذ في الاعتماد على نفسه من أول الأمر في تحصل هذا العلم، أو هذه المعرفة، ويجعل جل اهتمامه الكتب، فتجنح به هذه الكتب نحو التنطع أو الغلو، نظراً لأن الكتاب وجهة، أو وجهات نظر صامتة، لا تمد لك القدرة على رد التساؤلات التي تثيرها قراءة هذا الكتاب أو الاطلاع عليه ، أو التي يثيرها الواقع نفسه)( ).
7 - الأخذ أو التلقي عن الجاهلين( ).
8 - خلو الساحة أو الميدان من العلماء الذين يضبطون الفكر والتصور بل والسلوك( ).
9 - تعطيل شرع الله في الأرض، وما نتج عنه من انتشار أو ذيوع الشر والفساد وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، كرد فعل مضاد لذلك( ).
10 - الحظوظ النفسية من حب الذيوع والشهرة، أو الثناء والمحمدة ، أو المغنم والجاه، من وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو . ، من منطلق أن التنطع أو الغلو يحمل في طياته غالبا كل شاذ وغريب، والشواذ والغرائب من بين ما يكسب الذيوع والشهرة، أو الثناء والمحمدة، بل ربما توصل، إلى المغنم والجاه، تطبيقا لمبدأ: "خالف تعرف، وتغنم"( ).
11 - الرغبة في تحقيق مزيد من القرب من الله مع الغفلة عن أبعاد ومعالم الطريق( ).
12- الشدة، أو الإكراه، والضغط - سواء من البيت، أو المجتمع، أو الدولة - من بين العوامل، أو البواعث التي تدفع إلى الوقوع في آفة التنطع أو الغلو( ).
13- نسيان العواقب المترتبة على الوقوع في آفة التنطع أو الغلو في الدين من بين الأسباب التي توقع في هذا التنطع أو الغلو، إذ الإنسان إذا نسي عاقبة الشيء تجرأ على فعله، وتعاطيه، وإن كان فيه حتفه وهلاكه، قال تعالى: ] وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [( ).
14- الاشتغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبرى( ).
15- التباس المفاهيم: وقد أدى هذا الغبش في فهم الإسلام، وعدم وضوح الرؤية لأصول شريعته، ومقاصد رسالته، إلى التباس كثير من المفاهيم الإسلامية، واضطرابها في أذهان الشباب أو فهمها على غير وجهها( ).
16- اتباع المتشابهات من النصوص، وترك المحكمات البينات، وهذا لا يصدر من راسخ في العلم، إنما هو شأن الذين في قلوبهم زيغ ]فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [( ).
17- ضعف المعرفة بالتاريخ والواقع وسنن الكون والحياة( ).
أنواع الغلو:
للغلو أنواع كثيرة منها : 1- الغلو في الأشخاص ؛ بأن يرفعوا فوق منازلهم ويجعل لهم شيء من حق الله في العبادة والتقديس , كما غلت النصارى في المسيح فقالوا: هو الله أو ابن الله , أو ثالث ثلاثة فعبدوه مع الله , ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم , إنما أنا عبد , فقولوا عبد الله ورسوله"( ).
2-الغلو في عبادة الله عز وجل , ومن ذلك حديث أنس – رضي الله عنه - أن نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – سألوا عن عمله في السر ؟ فقال بعضهم : لا أتزوج النساء , وقال بعضهم: لا آكل اللحم , وقال بعضهم: لا أنام على فراش , فحمد الله وأثنى عليه , فقال :" ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ؟ لكني أصلي وأنام , وأصوم وأفطر , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني"( ) .
3-الغلو في الحكم على أصحاب الذنوب والكبائر بالكفر والخروج من الملة , ومن ذلك ماروي عن جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "حدث أن رجلاً قال :والله لا يغفر الله لفلان , وإن الله تعالى قال :من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت علملك, أو كما قال"( ).
4-الغلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , كما حصل من الخوارج والمعتزلة حين غلو في الإنكار حتى شقوا عصا الطاعة , وفرقوا جمع المسلمين.
5-الغلو في التقليد الفقهي: وذلك بالتعصب لآراء الأئمة حتى تجعل كأنها وحي منزل لا يجوز العدول عنها إلى الرأي الصحيح الراجح بالدليل.
6-الغو في الولاء والبراء , فيظن أهل الغلو أن البراءة من الكفار تعني تحريم التعامل معهم فيما أباح الله مما فيه منفعة , وأنها تعني الاعتداء على المعاهدين .
آثار الغلو:
الغلو داء خطير , وشر مستطير , وله آثار كثيرة منها :
1-أنه يجر إلى الشرك بالله , وذلك كالغلو في الأشخاص فإنه يفضي إلى عبادتهم من دون الله , كما حصل لقوم نوح لما غلو في الصالحين.
2-أنه يحمل على تكفير المسلمين وسفك دمائهم, كما حدث من الخوارج , حين قتلوا خيار الأمة.
3-أنه يحمل على الخروج على جماعة المسلمين , وشق صفهم , وتفريق كلمتهم .
4- أنه يزهد في الوسطية والاعتدال , بل تعتبر المغالي الوسطية تساهلاً وتفريطاً.
5- أنه يحمل على القنوط من رحمة الله تعالى , كما حصل من الذي تألى على الله.
6-أنه يسبب الانقطاع عن العمل الصالح .
7-كراهية الناس للمغالي , ونفورهم منه.
8-تضييع العمر وتبديد الجهد في غير ما طائل ولا فائدة.
9- التقصير في حق نفسه والدوائر المحيطة به .
هذه بعض مظاهر وأسباب الغلو في الدين , والتنطع في فهم نصوصه , وأنواعه , وآثاره السيئة على العمل الإسلامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق