كتاب الملل والنحل للشهرستاني
دراسة تحليلية نقدية
اعداد/عاطف احمد أبو زيتحار
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد
فإنّ الوقوف على آراء وعقائد المذاهب المختلفة وتحليلها ، ومعرفة
أدلّتها من أفضل أنواع الدراسة والتحقيق ، فهو السبيل الأفضل لمعرفة الرأي الأصوب
، والموقف الأحقّ بالأخذ والاتّباع ، وهو الأسلوب الذي سلكه القرآن الكريم في
مواجهاته العقائدية مع أصحاب المذاهب والاتّجاهات الفكرية المضادة وقد حثّ عليه إذ
قال تعالى : ( قُلْ هاتُوا بُرْهانكُمْ ) ([1])
وقال : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ) ([2]).
وقد كان المسلمون هم السبّاقين إلى هذا المنهج وهذا الأسلوب من
الدراسة والتحقيق ، ولهذا نرى في المكتبات والدراسات الإسلامية كتباً في الفقه
المقارن ، والعقائد المقارنة ، وغير ذلك من حقول المعرفة والثقافة.
ونظراً لأهمية هذا الأسلوب في عصرنا الحاضر طلب مني أستاذي وشيخي
الأستاذ الدكتور / إبراهيم مرجونه كتابة دراسة حول كتاب الملل والنحل للشهرستاني ،
وذلك في إطار من التحليل ، والمقارنة والدراسة والتقييم ، فلبّيت هذا الطلب وتم هذا
البحث بتوفيق اللّه تعالى .
وقد قسمته إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول : التعريف بالإمام الشهرستاني .
الفصل الثاني : مصادر الكتاب .
الفصل الثالث : الكتاب بين المحاسن والمآخذ .
الفصل الأول : التعريف بالإمام الشهرستاني :
نسبه ومولده :
اسمه محمد بن عبد الكريم بن أحمد. وكنيته أبو
الفتح، وشهرته المعروف بها الشهرستاني؛ نسبة إلى بلدة "شهرستان" مسقط
رأسه، ومثوى رفاته.
أما مولده، فقد اختلف في تاريخه، فمن قائل
يقول إنه ولد سنة 467هـ وقائل يذهب إلى أنه ولد سنة 469هـ.
ولعل أصدق الأقوال أنه ولد سنة 479هـ وتوفي
في شعبان سنة 548هـ الموافق 1153م، وبذلك يكون قد عاش 70هـ سنة([3]).
مذهبه :
والشهرستاني من حيث المذهب شافعي، ومن حيث
الأصول أشعري , وقد تلقى الفقه على شيخه أحمد الخوافي قاضي طوس، وزميل الإمام
الغزالي , وقرأ الأصول على أبي القاسم الأنصاري الذي كان متكلما وشيخا متصوفا
ومفسرا وأصوليا , وسمع الحديث على أبي الحسن المدائني الإمام التقي..., ونسبه اليافعي (ت 768هـ) نقلاً عن الذيل أيضاً إلى أنه من متكلمي الأشعرية([4]).
أما عن اتهامه بالميل إلى الإسماعيلية :
فيقول السمعاني :
أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد من أهل
شهرستانة. كان إماماً فاضلاً، متكلماً، أصولياً، عارفاً بالأدب والعلوم المهجورة،
وهو متهم بالإلحاد والميل إليهم. غال في التشيع([5]).
ويجيبه السبكي مدافعا عنه مبرئا له من تلك
التهم : وفي تاريخ شيخنا الذهبي أن ابن السمعاني ذكر أنه كان متهما بالميل إلى أهل
القلاع يعني الإسماعيلية والدعوة إليهم والنصرة لطاماتهم , وأنه قال في التجير:
إنه متهم بالإلحاد والميل إليهم غال في التشيع([6]).
ثم يقول : فأما الذيل فلا شيء فيه من ذلك
وإنما ذلك في التحبير , وما أدري من أين ذلك لابن السمعاني فإن تصانيف أبي الفتح
دالة على خلاف ذلك.
ويقع لي هذا دس على ابن السمعاني في كتابة
التحبير وإلا فلم لم يذكره في الذيل؟ , لكن قريب منه قول صاحب الكافي لولا تخبطه
في الاعتقاد وميله إلى أهل الزيغ والإلحاد لكان هو الإمام في الإسلام .., وأطال في
النيل منه.
وقال كانت بيننا محاورات ومفاوضات فكان يبالغ
في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم..., هذا كلام الخوارزمي([7]).
وعليه، فالسبكي متردد في عقيدة الشهرستاني، ولكن لديه رغبة في رفع التّهم
عنه.
وأمّا العلامة الحلي (ت 726هـ) فيعتقد أنّه من أشدّ المخالفين للإمامية،
ولكنّه لم يصرّح بمذهبه([8]).
كما يعتقد العلامة المجلسي (ت 1111هـ) أنّه من أهل السنّة، ولم يتكلّم
عن ميوله المذهبيّة ([9]).
وينقل ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) عن الخوارزمي بأن الشهرستاني متهم بالإلحاد،
لكنه يحاول أن يدفع عنه هذه التهمة. وعليه، فهو يقول: هذه التهم هي مسائل اختلافية
([10]).
ونسب صاحب الغدير الشهرستاني إلى أهل السنّة، دون أن يخوض في مذهبه، وقال
عنه: أنّه نسب إلى الشيعة تهماً باطلة. وجَمَع العلاّمة الأميني الموارد التي يرد عليها
الإشكال من وجهة نظر الشيعة في كتاب الملل والنحل، والملفت أنّه نقل قول الخوارزمي
بأن الشهرستاني يميل إلى الإلحاد([11]).
ولكن صاحب الغدير لم يلتفت إلى أن هذا القول بالإلحاد يعني كونه من الإسماعيلية.
وفي روضات الجنّات للميرزا محمد باقر الخوانساري (ت 1313هـ) عرّفه بأنه
متكلم أشعري؛ وذلك لأنّ مصدر معلوماته هو كتاب ابن خلّكان ([12]).
وجزم الدكتور أحمد محمود صبحي بأن الشهرستاني هو من كبار الأشاعرة، حتى
إنه في هامش كتابه نسب إليه كتاب مناظرات مع الإسماعيلية. وهذا الكتاب لا يوجد إلاّ
في فهارس كتاب الدكتور صبحي ([13]).
وقال صاحب كتاب ريحانة الأدب: إنه من المتكلمين الأشاعرة ([14]).
ويعتقد الأُستاذ جعفر السبحاني أنّه أشعري متعصّب، وينفي صحة المزاعم التي
تنسبه إلى الإسماعيلية أهل القلاع ([15]).
ويقول سهير مختار: لأجل مكانة الشهرستاني العالية واحترامه عند السلطان
سنجر، اتهمه أقرانه بهذه التهمة (كونه إسماعيلي)، كي يفقد مكانته عند السلطان ويسقط
من عينه وإلاّ فالشهرستاني متكلّم أشعري ([16]).
طلبه للعلم :
وكان الشهرستاني مولعا بطلب العلم، بدأ نبوغه
في تحصيل العلوم وشغفه بالدروس منذ صغره، وكان لا يدخر في طلب العلم وسعا، فكان
يطوف بالبلاد الإسلامية في عصره يتعلم ويعلم، وظل ذلك حاله، حتى بلغ من العمر
ثلاثين عاما قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وبعد ذلك سافر إلى بغداد حيث استقر
بها ثلاث سنوات كانت حافلة بما ألقاه من دروس نافعة بالمدرسة "النظامية"
أعلى المدارس ببغداد، حيث يلتف حوله كبار العلماء للاستفادة منه.
وبلغ من جلال مجالسه العلمية أنها كانت تسجل
وتدون، وذلك لعمقها. ومن صفوة الشيوخ الذين كانوا يحضرون هذه المجالس: أبو الحسن
بن حمويه، والبيهقي، والإمام أبو منصور، وموفق الدين أحمد الليثي، وشهاب الدين
الواعظ، وغيرهم من أئمة الفقه والعلم.
وخلاصة القول أن الشهرستاني وصل إلى قمة
السلم العلمي وأربى عليها، فقد لقب بالإمام، بل بالإمام الأفضل. يقول ابن السبكي:
"وكان لعلمه يلقب أيضا بالأفضل: برع في
الفقه والأصول والكلام"([17])
ويقول عنه ابن تغرى بردي: "كان إمام عصره في علم الكلام، عالما بفنون كثيرة
من العلوم، وبه تخرج جماعة من العلماء". ويقول عنه ياقوت إنه "المتكلم
الفيلسوف صاحب التصانيف".
ولم يقتصر الأمر على علماء الشرق، فقد عرف
علماء الغرب أيضا منزلته وقدروا قدره. فيقول العالم الإنجليزي "ألفرد
جيوم": "الشهرستاني كان رجلا دينا إلى الأعماق، وإخلاصه للعقيدة لا يمكن
أن يشك فيه أي إنسان قرأ مؤلفاته، التي تكفي بنفسها لدحض ادعاءآت المنتقصين من
شأنه ... وهو جدير بأن ينظر إليه باعتباره ذا أصالة فكرية".
ويقول "كارادي" الفرنسي: "إن
عقلية الشهرستاني لم تكن في جوهرها إلا عقلية فلسفية".
وذهب الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى أن
الشهرستاني من أهل الفلسفة الإسلامية اللذين يستشهد بآرائهم، مثله مثل ابن سينا.
مؤلفاته:
للشهرستاني عديد من المؤلفات فله:
1- الإرشاد إلى عقائد العباد: ذكره
الشهرستاني نفسه في كتابه "نهاية الأقدام".
2- الأقطار في الأصول: نسبه إلى الخوارزمي.
3- تاريخ الحكماء: وقد نسبه إليه
"كيورتن" في مقدمته لطبعته لكتاب "الملل والنحل".
4- تلخيص الأقسام لمذاهب الأنام: نسبه إليه
ابن خلكان وأبو الفداء، وحاجي خليفة.
5- دقائق الأوهام: نسبه إليه الخوارزمي.
6- شرح سورة يوسف بعبارة فلسفية لطيفة: نسبه
إليه الخوارزمي.
7- العيون والأنهار: نسبه إليه البيهقي.
8- غاية المرام في علم الكلام: نسبه إليه
الخوارزمي.
9- قصة موسى والخضر: نسبه إليه البيهقي.
10- المبدأ والمعاد: نسبه إليه الخوارزمي.
11- مجالس مكتوبة: رآها البيهقي -وكانت
المجالس لا تكتب إلا للأئمة نادرا.
12- مصارعة الفلاسفة، أو المصارعة والمضارعة:
نسبه إليه صدر الدين الشيرازي.
13- مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار في تفسير
القرآن: نسبه إليه البيهقي.
14- المناهج والآيات: نسبه إليه البيهقي وابن
خلكان وأبو الفداء.
15- شبهان أرسطا طاليس وابن سينا ونقضها:
ذكره الشهرستاني نفسه.
16- نهايات الأوهام: أشار إليه الشهرستاني في
آخر كتابه نهاية الأقدام.
غير أنه مما يدعو إلى الأسف أن هذه الكتب لم
تصل إلى أيدينا. ولم يطبع للشهرستاني إلا كتابان فقط هما:
1- نهاية الأقدام في علم الكلام.
2- والكتاب الذي بين أيدينا "الملل
والنحل"، وقد ألفه الشهرستاني بعد أن اكتملت مكانته العلمية، ومكنته سنه من
التجربة والتعمق في الأمور وحسن الاستنتاج؛ حيث ألفه بعد سن الأربعين.
ويمتاز هذا الكتاب بالاستقصاء في البحث،
والدقة في الموضوعات التي يتناولها. والشهرستاني معتدل في الأحكام التي يصدرها في
هذا السفر، فلا يصدرها عن ميل أو هوى، فهو يقول في المقدمة الثانية منه:
"وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على وحدته في كتبهم؛ من غير تعصب لهم،
ولا كسر عليهم".
ومنهج الشهرستاني في هذا الكتاب يمتاز
بالإحاطة التامة لموضوع البحث من جميع أطرافه([18]).
الفصل الثاني : مصادر كتاب الملل والنحل :
وأما مصادر الشهرستاني في الكتاب في الحديث عن
الفرق الإسلامية، ففي كثير من مواضع الكتاب يحكي الآراء مجردة عن مصادرها , وهو صنيع
كثير من مؤلفي عصره, وأحيانا يصرح بمن نقل عنه , ويصرح بكتابه , وأحيانا يصرح
باسمه دون كتابه..
يقول الإمام ابن تيمية: ما ينقله الشهرستاني
وأمثاله من المصنفين في الملل والنحل، عامته مما ينقله بعضهم عن بعض، وكثير من ذلك
لم يحرر فيه أقوال المنقول عنهم، ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله، بل هو ينقل
من كتب من صنف المقالات قبله، مثل أبي عيسى الوراق وهو من المصنفين للرافضة، المتهمين
في كثير مما ينقلونه ، ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة, وينقل أيضا من كتب بعض
الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة.
ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء ;
لأنه أعلم بالمقالات، وأشد احترازا من كذب الكذابين فيها، مع أنه يوجد في نقله،
ونقل عامة من ينقل المقالات بغير ألفاظ أصحابها ولا إسناد عنهم، من الغلط ما يظهر
به الفرق بين قولهم وبين ما نقل عنهم. حتى في نقل الفقهاء بعضهم مذاهب بعض، فإنه
يوجد فيها غلط كثير، وإن لم يكن الناقل ممن يقصد الكذب، بل يقع الغلط على من ليس
له غرض في الكذب عنه ، بل هو معظم له أو متبع له .
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل
المؤمنين متفقون على موالاته وتعظيمه ووجوب اتباعه، ومع هذا فغير علماء الحديث يكثر
في نقلهم الغلط عليه، ويزيدون في كلامه وينقصون نقصا يفسد المعنى الذي قصده، بل
يغلطون في معرفة أموره المشهورة المتواترة عند العامة وغيرهم([19]).
ويقول في موضع آخر: "والشهرستاني أكثر ما
ينقله من المقالات من كتب المعتزلة"، حيث "أنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفاً
في هذا الباب". ويظهر جلياً كثرة نقل الشهرستاني عن المعتزلة، فهو ينقل مثلاً
عن الكعبي المعتزلي، وربما نقل عن الوراق وغيرهما، وإن كان ينقل أحياناً عن الأشعري،
كما أنه ينقل عن أشخاص آخرين.
وقد يذكر كتباً غير موجودة الآن وينقل عنها، مثل:
كتاب عذاب القبر لابن كرام، وكتاب في مقالات الخوارج للحسين الكرابيسي، وكثيراً ماينقل
الشهرستاني الأقوال دون عزوِ إلى مصادرها، وقد يترجم بعض الكلام فينقله من الأعجمية
إلى العربية، كما فعل بما كتبه أحد الباطنيين ([20]).
وعموما : ما ذكره من مصادر تعد ضئيلة بالنسبة
لحجم الكتاب وثقله العلمي , ففي تاريخ الفرق الإسلامية ربما عول على مصادر الفرقة
, وهذا هو المنهج السليم , فعزا بعض ما أورده عن الكرامية إلى زعيمهم محمد بن كرام
في كتابه عذاب القبر , وكذلك في نقله عن المعتزلة , وعند حديثه عن الاسماعيلية
ترجم بعض مؤلفان الحسن بن الصباح وهو من أعيانهم([21]),
وفي كلامه عن أهل الكتاب لم يصرح بمصادره عن اليهود , أما بالنسبة للنصرانية فيصرح
بأنه رأى رسالة بولس إلى اليونانيين وذكر شيئا من مضمونها, أما عن تناوله لم له
شبهة كتاب , فقد عزا بعض ما ذكره عن المجوس إلى تواريخ الهند والعجم , أما بالنسبة
للزرادشتيه فقد نقل وتحدث عن كتاب زرادشت زاند أوستا إضافة إلى ما نقله من
الجيهاني في مقالاته([22])
, وكذا عن أبي حامد الزوزاني في شأن بعض المجوس وفرق الإمامية ([23]), أما الصابئة فلم يصرح بشيء من مصادره عنهم .
وفي كلامه عن آراء العرب صرح بالنقل عن محمد
بن السائب الكلبي , واستفاد بالجاحظ في كتابه أديان العرب .
الفصل الثالث : الكتاب بين المحاسن والمآخذ :
لقد امتدح بعض العلماء كتاب الملل والنحل
وأثنوا على مؤلفه خيرا , وفي الجانب الآخر انتقد بعض العلماء والكتاب والباحثين
الكتاب وأخذوا عليه بعض المآخذ , وفي هذه الصفحات نعرض لمحاسن الكتاب ومؤلفه ,
ومآخذ الأئمة عليه .
أولا : محاسن الكتاب :
من مزايا الملل والنحل ومحاسن مؤلفه :
1 – أن مؤلفه يمتاز بالاستقصاء في البحث، والدقة
في الموضوعات التي يتناولها , والشهرستاني معتدل في الأحكام التي يصدرها في هذا
السفر، فلا يصدرها عن ميل أو هوى، فهو يقول في المقدمة الثانية منه: وشرطي على
نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على وحدته في كتبهم؛ من غير تعصب لهم، ولا كسر عليهم([24]).
2 - ومنهج الشهرستاني في هذا الكتاب يمتاز
بالإحاطة التامة لموضوع البحث من جميع أطرافه([25]).
3 - أنه
يعرِّف بالفرق ابتداءً، ثم يورد الأصول التي اتفقت عليها إحدى الفرق الإسلامية الكبار،
ثُم يذكر ما يختص بكل طائفة من طوائف هذه الفرقة، ويهتم الكتاب بذكر أبرز رجال بعض
الفرق، وذلك عند نهاية الحديث عن إحدى الفرق.
4 - وكتاب (الملل والنحل) مرجع جيد في معرفة أقوال
الأشاعرة والفلاسفة، كما يقول ابن تيمية: "ولما كان (الشهرستاني) خبيراً بقول
الأشاعرة وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة، كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين"([26]).
5- استوعب الشهرستاني في الكتاب أفكار زمانه،
لكنه لم يقلّد مدرسة فكرية معينة، بل وقف منها موقف الناقد البصير، ولم يركن الى الجوّ
السائد آنئذ، بل تعمّد أحيانا الى نقده من أجل تحريك مسيرة الفكر كما فعل مع ابن سينا,
يمتاز نقده بالموضوعية والعقلانية والأمانة العلمية، وإن كبا أحياناً في أحكامه ,
وبعض نقولاته , وله تفسير باسم (مفاتيح الاسرار ومصابيح الأبرار) تبرز فيه ثقافته الدينية
وولاءه لآل بيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم –([27]).
6 - ولقد اقتضت موضوعية الشهرستاني في كتابه،
ألا يجاري أسلافه من الأشاعرة في خصومتهم اللدودة للمعتزلة ([28]).
7 – قال بعض منتقديه : الشهرستاني أكثر المؤرخين
نزاهة وأعفهم لساناً، وأرحبهم صدراً، وأبعدهم نظراً ([29])..
8 - ولقد اقتضت موضوعية الشهرستاني أيضاً، ألا
يجاري أسلافه من الأشاعرة في خصومتهم اللدودة للمعتزلة .., وهذا ما يلحظه الباحث في
بعض المسائل التي تناولها بالبحث والدرس وانتقد بها آراء مخالفيه، كان يميل فيها إلى
آراء للمعتزلة، بعد أن يعدل فيها بحيث تأخذ طابعاً أشعرياً فلا تنسب إلا إليه، ولعل
أوضح الأمثلة على ذلك؛ موقفه من مسألة صلة الذات بالصفات وميله إلى القول بالأحوال
التي قال بها أبو هاشم الجبائي المعتزلي، ولكن بعد تعديلها .
9 - وثمة مظهر آخر من مظاهر موضوعية متكلمنا أبي
الفتح، وتتمثل في أنه عندما قصد إلى وضع مؤلفه الخاص الملل والنحل آثر أن ينبه الأذهان
إلى مسلكه في هذا الكتاب مشيراً إلى التزامه بهذه الموضوعية حيث قال: … وشرطت على نفسي
أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم، من غير تعصب لهم، ولا كسر عليهم، دون
أن أبين صحيحه من فاسده، أو أعين حقه من باطله، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية
في مدارك الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل([30]).
10 – صرح في مقدمة كتابه بأنه طالع مقالات
أهل العلم من أرباب الديانات والملل , وأهل الأهواء والنحل ,ووقف على مصادرها
ومواردها , وهذا منهج علمي سديد.
11 – جود في حسن الترتيب والتبويب بداية من
المقدمات إلى نهاية الكتاب .
12 – لا يكتفي بالعزو إلى المصدر بل يذكر أحيانا
صحة نسبته كما فعل مع ابي الحسن البصري في رسالة القدر.
13 – عرض مقالات الفرق دون مناقشتها في
الغالب أو نقدها , فقد اقتصر عمله في الغالب على حسن الترتيب والتبويب وجودة النقل
, وهو ما يعرف بالمنهج التاريخي الوصفي .
14 – عنايته بالمصطلحات والتعريف بها , حيث
عرف بالفرق , وأهل الأديان والنحل .
15 – اعتنائه بطريقة التقابل والتضاد , فيذكر
القدرية والجبرية , والمرجئة والوعيدية , والشيعة والخوارج , حتى في تقسيم الكتاب
يذكر : أهل الديانات والملل , أهل الأهواء والنحل .
ثانيا : المآخذ على كتاب الملل والنحل:
وعندما نتحدث عن المآخذ على كتاب الملل والنحل،
فمنها:
1 - عدم اشتراطه نقد الفرق المنحرفة، والرد عليها،
والمسلم مطالب بنصرة الحق والدعوة إليه، ورد الباطل والتحذير منه.
2 - نقل الشهرستاني عن الشيعة والمعتزلة بلا تمحيص
ولا توثيق، وهذا ما أشار إليه ابن تيميه، وقد عرض شيخ الإسلام لكثير من الأقوال التي
أوردها الشهرستاني، ونقدها، ويظهر أن الشهرستاني قليل المعرفة بالحديث، وقد تعقَّبه
شيخ الإسلام في عدة مواضع، يقول: والشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالا ضعيفة،
يعرفها من يعرف مقالات الناس، مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات
وأجود نقلا، لكن هذا الباب وقع فيه ما وقع. ولهذا لما كان خبيرا بقول الأشعرية
وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة، كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين وأما
الصحابة والتابعون وأئمة السنة والحديث، فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم، بل ولا
سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة، وإنما سمعوا جملا تشتمل
على حق وباطل.
ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في
مصنفاتهم الثابتة بالنقل عنهم، وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم , وهذا من جنس
نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما، مما فيه صحيح وضعيف.
وإذا كان كذلك فنقول: ما علم بالكتاب والسنة
والنقل المتواتر، من محاسن الصحابة وفضائلهم، لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع،
وبعضها محرف ، وبعضها لا يقدح فيما علم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد تيقنا
ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا، وما يصدق ذلك من المنقولات
المتواترة من أدلة العقل، من أن الصحابة - رضي الله عنهم - أفضل الخلق بعد
الأنبياء، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانها؟ ! ([31]).
3 - أن الشهرستاني مع كثرة ذكره للمقالات وأقوال
أهل الديانات وأهل الأهواء، إلا أنه لم ينقل مذهب الصحابة وسلف الأُمة، لا تعمداً منه
لتركه، بل لأنه لم يعرفه، وذلك لقلة خبرته بنصوص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه
والتابعين , يقول بن تيمية : ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات،
ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه. ونفس ما بعث الله به
رسوله، وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس،
لا ينقلونه، لا تعمدا منهم لتركه، بل لأنهم لم يعرفوه، بل ولا سمعوه، لقلة خبرتهم
بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين([32]).
4 - انتقده كثير من الأئمة القدامى
والمعاصرين , فمن القدامى : الإمام ابن تيمية , والفخر الرازي , ومن المعاصرين :
المستشرق البارون كارادي , وأحمد أمين , ومحمد غلاب , وأحمد محمود صبحي , وعبد
الحليم محمود وعلي سامي النشار وآخرون .
ومما جاء في اتهامهم :
اتهم بالميل إلى الفلسفة بالاشتغال بها ونصرة
مذهبها , وبعده عن المنقول من كلام الله رب البرية والرسول – صلى الله عليه وسلم
–([33]).
كما اتهم بمحاباة بعض الفرق الباطنية
كالإسماعيلية , ونصرة طاماتهم , ولعله وهو الراجح بريء من هذه التهم , وتلك
الظلمات والشناعات([34]).
5 - كما اتهم بنقله المذاهب الإسلامية من
كتاب الفرق للبغدادي وهذا الأخير شديد التعصب على المخالفين , ولا يكاد ينقل
مذهبهم على الوجه الصحيح ([35]).
6 - قال أحمد أمين : ورأيت بعض مؤلفي العرب
كالشهرستاني والقفطي قد خلطوا حقا وباطلا فكثيرا ما نسبوا القول إلى غير قائله , وترجموا
حياة فيلسوف ترجمة لا يقرها التاريخ([36]).
7 – عدم دقته أحيانا في تصنيف بعض الفرق
ورجالها فأدرج النجارية ضمن الجبرية مع أنها وافقت المعتزلة في أشياء ووافقت
الجبرية في أخرى , بل ذكرهم مع المرجئة أولى لقولهم بالرجاء([37]).
وذكر من الشيعة من ليس منهم , فذكر بعض أعلام
وأئمة أهل السنة كأبي حنيفة النعمان , وشعبة , ووكيع , وأبا اسحاق السبيعي ,
وعلقمة والنخعي مع رجال الشيعة وهذا لا يصح ([38]).
8 – نسبته بعض الأقوال لبعض الفرق ليس دقيقا
, ومن ذلك :
-
اجماع الخوارج على تكفير صاحب الكبيرة مع أن
العجاردة والإباضية ترى أنه كفر نعمة لا ملة .
-
ومن ذلك أيضا : قوله أن الانصار اتفقوا على
تقديم سعد بن عبادة للخلافة , ومن تتبع الروايات ووقف على شروحها يرجح أن من ذهب
إلى ذلك قلة قليلة من الأنصار يتقدمهم سعد بن عبادة والحباب بن المنذر – رضي الله
عنهما – ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق – رضي الله عنه-([39])
9 – من المبالغات غير الدقيقة التي وقع فيها
: أنه رد معظم المذاهب الإسلامية التي اعتنقها المتكلمون , ومذاهب أهل السنة والتي
تخال الأشعرية إلى معصية ابليس وهي في نظره مذاهب مبتدعة ضالة تشعبت عن تلك
الشبهة([40]).
[1] - البقرة من الآية : 111,
والنمل من الآية : 64.
[2] - الزمر من الآية : 18.
[3] - طبقات الشافعية للسبكي 4/78
, ووفيات الأعيان 4/273 , ومعجم البلدان لياقوت 3/377.
[4]- وفيات الأعيان
4/273 , رقم: 611, ومرآة الجنان وعبرة اليقظان 3/289 .
[5] - التحبير في المعجم الكبير للإمام عبد الكريم بن محمد
بن منصور التميمي السمعاني المروزي، أبو سعد (المتوفى: 562هـ) , 2/ 161 , تحقيق :
منيرة ناجي سالم , ط : رئاسة ديوان الأوقاف – بغداد - الطبعة: الأولى، 1395هـ-
1975م
[6] - طبقات الشافعية الكبرى 6/130
[7] - المرجع السابق 6/131.
[8] - منهاج السنة 3/207 .
[9] - بحار الأنوار، 23/172 .
[10] - لسان الميزان 6/304 , رقم:
7760.
[11] - الغدير 3/ 142 : 147 .
[12] - روضات الجنّات 26/675.
[13] - في علم الكلام 2/239 , 276 .
[14] - ريحانة الأدب 3/272 .
[15] - ثقافة العقائد والمذاهب الإسلامية 2/285 :
290 ؛ وبحوث في الملل والنحل، للسبحاني 2/339 ــ 344 اعتبر أن أهل القلاع الإسماعيلية
هم القرامطة، ولكن الصحيح هم النـزارية لا القرامطة.. (نقلا عن الشهرستاني بين الأشاعرة
والإسماعيلية أ. مهدي فرمانيان
,ص :166 , ترجمة: ضياء المحمودي.
[16] - الشهرستاني وآراؤه الكلامية والفلسفية، ص:362
(نقلاً عن كتاب: منهج الشهرستاني، ص:124).
[17] - طبقات الشافعية 4/77 .
[18] - مقدمة الملل والنحل لعبد
العزيز الوكيل , ط : مؤسسة الرسالة .
[19] - منهاج السنة لابن تيمية 6/300 , 301 .
[20] - منهاج السنة لابن تيمية
6/301 .
[21] - الممل والنحل 1/190 .
[22] - المرجع السابق 1/235.
[23] - المرجع السابق 1/190.
[24] 1/107 .
[25] - مقدمة الملل والنحل لعبد
العزيز الوكيل , ط : مؤسسة الرسالة .
[26] - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
للإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي
القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) 6/304, تحقيق:
محمد رشاد سالم , ط: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية , الطبعة: الأولى، 1406
هـ - 1986 م.
[27] - المنهج النقدي عن الشهرستاني لمحمد حسيني أبو سعدة , ص
: 3.
[28] - في علم الكلام
للدكتور أحمد صبحي 1/714 , 715 .
[29] - المعتزلة لزهدي جار الله , ص : 243 .
[30] - الملل والنحل، 1/14 ط : الحلبي، القاهرة ١٩٦٨م.
[31] - منهاج السنة 6/304 , 305.
[32] - المرجع السابق 6/301.
[33] - طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/324 , ومعجم البلدان
3/377.
[34] - التحبير في المعجم الكبير 2/161 , ولسان الميزان لابن
حجر 5/263.
[35] - مناظرات الفخر الرازي في
بلاد ما وراء النهر , ص : 39 , 40 .
[36] - نقلا عن مقدمة كيلاني للملل والنحل ,ص :4.
[37] - الملل والنحل 1/88 , واعتقادات المسلمين والمشركين
للرازي ,ص : 47.
[38] - التبصير في الدين , ص : 101 . ومنهج الشهرستاني في
الملل والنحل عرض ونقد , ص : 25.
[39] - الملل والنحل 1/20 , ومنهاج السنة لابن تيمية 6/209 .
[40] - الملل والنحل 1/16 : 20 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق