حب أهل البيت بين أئمة الفقه والحديث وغفلة الاتجاهات الاسلامية المعاصرة عن هذا الحب

 

دكتور عاطف زيتحار

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ألف الإمام الفقيه الحنفي ملا علي القاري (ت1014ه) رسالته النفيسة: استئناس الناس بفضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, وقال في رسالته : إن بعض الأمراء وأتباعهم من الجهلاء يعظمون أصغر أولاد المشايخ الكبراء على ذرية سيد الأنبياء...؛ ويقصد بذلك إذا كان الناس يعظمون أبناء المشايخ والعلماء لصلتهم بمن علمهم, فتعظيمهم لذرية النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأحق.

إن حب آل البيت والصلاة عليهم والاقتداء بهم مطلب شرعي؛

قال السيوطى: هؤلاء هم الأشراف حقيقة في سائر الأعصار وهو ما عليه الجمهور، وهو معنى رواية مسلم عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد.. أيها الناس إنما اًنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربى فأجيب، وأنا تارك بينكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" قالها ثلاثًا، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: آل علىّ، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس رضى الله عنهم.

وأخرج ابن سعد في الطبقات: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بأهل بيتي خيرًا، فإني أخاصمكم عنهم غدًا، ومن أكن خصمه: خصمه الله"، ونقل القرطبي وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ الضحى:5. قال: من رضى محمد ألاّ يدخل أحد من أهل بيته النار. وأخرج السيوطي "سألت ربي ألا يدخل أحدا من أهل بيتي إلى النار فأعطانيها" وفي رواية:" فأعطاني ذلك", وأخرج البخاري عن ابن عمر قال أبو بكر رضي الله عنه: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثًا", وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سائلكم كيف خلفتموني في كتاب الله وأهل بيتي". وروى الحاكم والترمذى، وصححه على شرط الشيخين ، قال صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم به، واًحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي"، وهناك آثار كثيرة تدل على وجوب حب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وكثير من الآثار-أيضا- تدل على تحريم بغض آل البيت منها: ما أخرجه الطبرانى والبيهقى وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بال أقوام يؤذونني في نسبي وذوي رحمي؟ ومن آذى نسبي وذوي رحمي فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله". وروى أحمد مرفوعًا: "من أبغض أهل البيت فهو منافق". وروى أبو الشيخ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بال رجال يؤذونني في أهل بيتي؟ والذى نفسى بيده، لا يؤمن عبد حتى يحبني، ولا يحبني حتى يحب ذريتي". وروى الحاكم وصحته على شرط الشيخين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبغضنا -أهل البيت -أحد إلا أدخله الله النار".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق من أسواق المدينة فانصرف فانصرفت فقال:" أين لكع - ثلاثا - ادع الحسن بن علي" . فقام الحسن بن علي يمشي وفي عنقه السخاب؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده هكذا, فقال الحسن بيده هكذا, فالتزمه فقال:" اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه". وقال أبو هريرة: فما كان أحد أحب إلي من الحسن بن علي بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال. أخرجه البخاري, ج5, ص2207, ح رقم (5545). وفي رواية أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن, قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق بني قينقاع متكئا على يدي فطاف فيها ثم رجع فاحتبى في المسجد وقال:" أين لكاع؟ ادعوا لي لكاعاً", فجاء الحسن عليه السلام فاشتد حتى وثب في حبوته, فادخل فمه في فمه, ثم قال:" اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه", ثلاثاً, قال أبو هريرة: ما رأيت الحسن إلا فاضت عيني أو دمعت عيني أو بكت.

وروى الترمذي عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهم".

فنخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب وذلك بقراءته وتدبره وحفظه والعمل بما فيه, ونخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل بيته بحبهم كما أحبهم, والاهتداء بهديهم, والاقتداء بعلمائهم الملتزمين بالشرع العاملين بكتاب والسنة, وأما من لم يكن عالما بالشرع, غير عارف بالمصدرين, فلا يقتدى به، كما أنه لا يقتدى بهم فيما لم يصح عنهم مما اختلقه عليهم المختلقون، فقد قال الإمام المناوي في فيض القدير في شرح قوله: "وعترتي" : يعني إن ائتمرتم بأوامر كتابه وانتهيتم بنواهيه واهتديتم بهدي عترتي واقتديتم بسيرتهم اهتديتم فلم تضلوا قال القرطبي: وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وإبرارهم وتوقيرهم ومحبتهم وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها هذا؛ قال القرطبي: وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وإبرارهم وتوقيرهم ومحبتهم وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها هذا مع ما علم من خصوصيتهم بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبأنهم جزء منه فإنهم أصوله التي نشأ عنها وفروعه التي نشأوا عنه كما قال: " فاطمة بضعة مني " ومع ذلك فقابل بنو أمية عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق فسفكوا من أهل البيت دماءهم وسبوا نساءهم وأسروا صغارهم وخربوا ديارهم وجحدوا شرفهم وفضلهم واستباحوا سبهم ولعنهم فخالفوا المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصيته وقابلوه بنقيض مقصوده وأمنيته فوا خجلهم إذا وقفوا بين يديه ويا فضيحتهم يوم يعرضون عليه (وإنهما) أي والحال أنهما وفي رواية أن اللطيف أخبرني أنهما (لن يفترقا) أي الكتاب والعترة أي يستمرا متلازمين (حتى يردا على الحوض) أي الكوثر يوم القيامة زاد في رواية كهاتين وأشار بأصبعيه وفي هذا مع قوله أولا إني تارك فيكم تلويح بل تصريح بأنهما كتوأمين خلفهما ووصى أمته بحسن معاملتهما وإيثار حقهما على أنفسهما واستمساك بهما في الدين أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية والأسرار والحكم الشرعية وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين فطيب العنصر يؤدي إلى حسن الأخلاق ومحاسنها تؤدي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته..انتهى. الإمام المناوي: فيض القدير, ج3 ص14, المكتبة التجارية الكبرى – مصر, الطبعة: الأولى، 1356هـ.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية لما أراد أن يبين أصول معتقد أهل السنة في كتابه: العقيدة الواسطية، تجده يقول فيها: ويحبون أهل بيت رسول الله ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم: أذكركم الله في أهل بيتي ـ وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ـ وقال: إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم انتهى. ابن تيمية: العقيدة الواسطية, ص26, مكتبة المعارف، الرياض.

وهذه المكانة لآل البيت تجلت في عقيدة الأئمة الأربعة الأعلام أصحاب المذاهب المعروفة, فأظهروا حبهم وولاءهم, وجعلوا حبهم لآل البيت فريضة وولاءهم قربة إلى الله تعالى وتعبداً له.

فهذا أبو حنيفة النعمان رحمه الله فقيه زمانه وأحد أئمة المذاهب الأربعة يظهر حبه ويعلن ولاءه لآل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم, ويجسد لنا موقف أهل السنة بشكل عام وهو حب آل البيت والانتصار لهم وكان دائماً يعلن أنَّ أبا بكر أفضل من عمر وعمر أفضل من عثمان ويرى أنَّ كلاً من عثمان وعلي بمستوى واحد.

وذكر أبو حنيفة أنه التقى بالإمام محمد الباقر وهو من أئمة الإمامية وهو والد جعفر الصادق، فسأله أبو حنيفة: ما تقول أصلحك الله في أبي بكر وعمر؟ فأثنى محمد الباقر عليهما خيراً وقال يرحمهما الله تعالى وأخذ يفيض بالحديث عن آثارهما فقال له بعضاً من أهل العراق يقولون إنك تتبرأ منهما، قال معاذ الله، كذبوا ورب الكعبة! ما قاتل عليّ أحداً إلا وعليّ أولى بالحق منه أي في عصره بعد أبي بكر وعمر.

لقد كان أبو حنيفة محبًّا لآل البيت ومتشبعًا بهذا الحب والولاء، ويرى الحق معهم دائمًا، وهذا ما أدى إلى إيذائه أكثر من مرة، وتعرَّض بحبه لهم لمِحَن كثيرة في العهدين الأموي والعباسي، لكنه كان متزنًا وعاقلًا وفقيهًا فكان يرد حجج وشبهات من رماه من قومه بالعقل والنقل، فهو وإن كان يحب الإمام عليًّا بن أبي طالب إلا أنه لا يرفعه في المنزلة عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وإن كان يجعله في منزلة أعلى من منزلة عثمان إلا أنه أيضًا كان يترحم على عثمان أكثر ما يكون الترحم، ولم ينقصه يومًا.

في العهد الأموي خرج يزيد بن علي من آل البيت على هشام بن عبدالملك، فأبى أبو حنيفة إلا أن يمده بالمال، فلما قُتل يزيد بن علي لم يدع ابن هبيرة (عامل هشام على العراق) الأمر يمر على أبي حنيفة مرور الكرام، فأراد أن يختبره في ولائه للدولة الأموية، فعرض عليه القضاء، فأبى أبو حنيفة أن يتولاه، فحبسه ابن هبيرة وأمر بجلده، فجُلِد لمدة ثلاثة أيام كاد أبو حنيفة يهلك.

لقد كان أبو حنيفة محبًّا لآل البيت، الذين بهم يُعرف الحق، لكن ذلك لم يمنعه عن الدفاع عن قيم المجتمع وحقوقه ضد النظم القائمة؛ فقد كان دائمًا ما ينتقد أحكام القضاء إن حصل بها الزيف، وحادت عن الحق، ويصل ذلك إلى أبي جعفر المنصور.

يُروى أن أهل الموصل نقضوا بيعة أبي جعفر المنصور، وكان المنصور قد شرط عليهم أنهم إذا نقضوا بيعته أُحلت دماؤهم، فجمع المنصور الفقهاء ليستشيرهم، فقال أبو جعفر: أليس المؤمنون عند شروطهم، وهم قد شرطوا ألا يخرجوا فلا أرى إلا أنه قد حلت دماؤهم، فقال رجل: يدك مبسوطة عليهم، وقولك مقبول فيهم، فإن عفوت فأنت أهل العفو، وإن عاقبت فبما يستحقون، فتكلم أبو حنيفة وقال: إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه، وشرطت عليهم ما ليس لك، لأن دم المسلم لا يحل إلا بأحد معان ثلاث، فإن أخذتهم أخذت بما لا يحل، وشرط الله أحق أن تفي به. أبو حنيفة، محمد أبو زهرة، ص48-49.

لقد كان أبو حنيفة لا يسكت عن ظلمٍ يراه سواء ذلك في آل البيت أو في أيّ جانب من جوانب المجتمع، فظل ذلك مقلقًا للنظم السياسية التي تعاقبت عليه، ولما ضاق به أبو جعفر المنصور عرض عليه تولية قضاء بغداد وألَحَّ في عرضه، وألح أبو حنيفة في الرفض، فما كان من أبي جعفر إلا أن سجنه وعذبه حتى مات متأثرًا بجروحه. أبو حنيفة، محمد أبو زهرة، ص55 نقلاً عن كتاب المناقب لابن البزازي.

ومن جمال مذهب هذا الإمام أن أغلب أعلامه وعلمائه الذين حملوه إلى مشارق الأرض ومغاربها من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكيف لا والإمام الأعظم تلقى الفقه والعلم على يد جعفر الصادق وتلقى الحديث على يد محمد بن علي زين العابدين – الباقر-, ولما سئل أبو حنيفة عن أعلم من رأى قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد. سير أعلام النبلاء ج6, ص257, وتاريخ الإسلام ج3, ص995, وألف أئمة الحنفية في فضائل آل البيت فألف العلامة محمد أمين عمر بن عابدين (ت1252ه) : العلم الظاهر في انتفاع النسب الطاهر, وألف محمد بن محمد الأقسرائي (ت776ه) : مناقب الإمام علي, وألف عبد القادر بن حمزة (ت1279ه): رسالة في فضل آل البيت.. وغيرهم كثير.

ومن أئمة هذا المذهب من آل البيت الإمام أبو الفضل الحسني المتصل نسبه بالإمام علي بن أبي طالب وهو فقيه حنفي معروف (ت448ه), وطراد الزينبي (ت491ه), والسيد أبو شجاع الذي ينتهي نسبه إلى عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب وتوفي في منتصف القرن الخامس, وأبو الوضاح العلوي (ت491ه), وأحمد بن طاهر بن حيدرة (ت566ه), الذي ينتهي نسبه إلى الإمام محمد الباقرونور الهدى الزينبي (ت512ه) الذي ينتهي نسبه إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما,  وغيرهم كثير يربوا عددهم على المائتين حتى القرن الخامس عشر, ومن أعلام هذا القرن, محمد أبو اليسر عابدين (ت1401ه), ومحمد مرشد عابدين المعروف بابن عابدين (1428ه), ومصطفى حمدي الجويجاتي (ت1411ه) الذي ينتهي نسبه إلى العباس بن عبد المطلب.

وهكذا حمل المذهب أئمة آل البيت وبلغوه للأنام حتى وصل إلينا كما هو اليوم, فرضي عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ورضي الله عن آل بيت رسوله الكرام.

وإذا كان الإمام أبي حنيفة حمل مذهبه رجال من آل البيت فإن الإمام الشافعي رحمه الله الفقيه صاحب المذهب المعروف هو نفسه من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم..؛ فهو صاحب النسب الشريف من أعظم علماء الأمة وهو أحد الأئمة الأربعة الذي أظهر للناس حبه لآل بيت رسول صلى الله رغم اتهامه بالرفض والتشيع وهو من ذلك بريء فأعيى متهمه بقوة حجته, وفصاحة بيانه وحلاوة منطقه, وجمال فلتات لسانه..؛ ولكن الحسد -كما هي العادة- لم يترك هذا الإمام وشأنه؛ فأخذ المغرضون يُشيعون الاتهامات ويحاولون إلصاقها به، لا سيما مخالفيه الذين أعيتهم قوة حُجَجِه ورسوخ براهينه.

فأوغروا عليه صدر هارون الرشيد بأنه ذهب إلى اليمن ليؤسس دولة يستقل بها عن حكم العباسيين؛ فأمر هارون الرشيد بحمل الإمام الشافعي من اليمن إلى بغداد مكبّلًا بالأصفاد، فلما اكتشف صدق عقيدته وسلامة اعتقاده وقوة بيانه أعاده إلى مكة معززًا مكرمًا بعد أن اكتشف كذب الفرية على الإمام الشافعي.

ولما اتهم بالتشيع أنشد يقول:

يا آلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبُّكمُ فرضٌ مِن اللهِ في القرآنِ أنزلَهُ

يَكفيكمُ مِن عظيمِ الفخرِ أنّكمُ مَنْ لم يُصلِّ عليكمْ لا صلاةَ لَهُ

ثم أجاب من اتهمه بالرفض بقوله:

قالوا تَرَفّضْتَ قلتُ: كلا     ما الرفضُ ديني ولا اِعتقادي

لكن توليتُ غير شكٍ       خيرَ إمامٍ وخيرَ هادي

إن كان حُبُّ الوليِّ رفضًا    فإنَّ رفضي إلى العبادِ

ولما أكثروا من الطعن عليه ولم ينتهوا قال:

إذا في مجلسٍ نذكر عليًّا    وسبطيه وفاطمةَ الزكيَّة

يُقال تجاوزوا يا قوم هذا     فهذا من حديث الرافضية

برئتُ إلى المهيمنِ من أُناسٍ   يرون الرفضَ حُبَّ الفاطمية

وبعد أن انتشر الخبر وروجوا له وصنعوا دوائر من الشبه والاشاعات والأراجيف حول الإمام خرج في موسم الحج يهتف على مسامع الحُجاج بإعلان إصراره وثباته على حب آل البيت رغم أُنوف الحاقدين والحاسدين والمتقولين عليه ما ليس فيه:

يا راكبًا قِفْ بالمُحَصَّبِ مِن منى واهتِفْ بَقاعدِ خَيفِها والناهضِ

سَحَرًا إذا فاضَ الحجيجُ إلى منى فيضًا كَمُلتَطِمِ الفُراتِ الفائضِ

إنْ كانَ رَفضًا حُبُّ آلِ مُحمدٍ فَلْيشْهَدِ الثَقَلانِ أنّى رافضي

وأعلن رده على الروافض الذين يبغضون الشيخين الجليلين سيدنا أبي بكر وعمر رضي الله عنهما,  والنواصب الذين يتطاولون على آل البيت ويناصبونهم العداء؛ فقال:

إذا نحنُ فَضَّلنا عليًّا فإننا      روافضُ بالتفضيلِ عندَ ذوى الجهلِ

وفضلُ أبى بكرٍ إذا ما ذكرتُهُ     رُميتُ بِنَصبٍ عندَ ذِكْريَ للفضلِ

فلا زلتُ ذا رفضٍ ونصبٍ كلاهما    بحُبيهما حتى أُوَسّدَ في الرملِ

ثم أعلنها غير مبال بكلام كل حاسد وحاقد وجاهل :

آلُ النّبيِّ ذَريعتي وَهُمُوا إليه وسيلتي    أرجو بهم أُعطى غدًا بيدي اليمين صحيفتي

فأعلن الإمام الشافعي حبه وصاغ هذا الحب أفضل صياغة, وكيف لا يعلن حبه ويفاخر به وهو الحسيب النسيب الذي يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في نسبه عند جدهما عبد مناف، وذلك أن الشافعي هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي, كذا قال الخطيب: في تاريخ بغداد, وابن عساكر: في تاريخ دمشق, وابن الجزري: في غاية النهاية.

وإن كان الشافعي الحسيب النسيب الشريف حمل النسب بين ضلوعه ودافع عنه وجاهد الروافض والنواصب من أجله, فإن جل علماء المذهب من آل بيت النبي عليه السلام, فهذا الإمام أبي عبد الله العلوي النيسابوري الحسين بن داود (ت355ه) الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه, قال الحاكم في ترجمته: شيخ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره بخراسان, كان أكثر الناس صلة ومحبة وصدقة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره. صحبته برهة من الدهر فما سمعته ذكر عثمان إلا قال: الشهيد وبكى, وما سمعته يذكر عائشة ‘ إلا قال الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب رسول الله, وبكى.

ومن أئمة المذهب أيضاً: عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله الهاشمي العباسي (ت322ه), وأبو علي محمد بن الحسين بن داود الحسني العلوي النيسابوري الشافعي (393ه)), ومحمد بن أحمد البرزنجي المدني (ت1335ه) وغير ذلك كثير حيث يربو عددهم على المائتين حتى القرن الرابع عشر.

فهذا هو الإمام المحب لآل البيت, وهؤلاء حملة مذهبه في العصور المتعاقبة من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.., يحملون إلى الأمة أنوار فقه الشافعي فيبلغ فقهه ما بلغ الليل والنهار, فرضي الله عنهم وعن إمامهم وعن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن كان أبو حنيفة والشافعي وحملة مذهبهما لقنا الدنيا حب آل رسول الله, فإن الإمام أحمد بن حنبل لم يكن يوماً بعيدا عن هذا الحب, كيف لا وهو الذي أظهر حبه وولاءه لآل البيت حتى وهو تحت وطأة التعذيب, فلقد عذب كثيرا وابتلي طويلا في محنة خلق القرآن, روى أنه كان كلما ضرب سوطاً أبرأ ذمة المعتصم، فسئل فقال: كرهت ان آتي يوم القيامة فيقال: هذا غريم ابن عم النبي صلى الله عليه واله وسلم، أو رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم» عقد اللآلئ والزبرجد في ترجمة الامام الجليل أحمد – للعجلوني – تحقيق محمد بن ناصر العجمي – دار البشائر الاسلامية.

هذا الإمام العظيم بدأ مسنده بأبي بكر الصديق رضي الله عنه, وانتهاه بحديث عن آل البيت تكريما لهم وإعزازا لشأنهم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ - الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ - وَهُوَ حَامِلُ الحَسَنِ أَوْ الْحُسَيْنِ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ أَبِي: رَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ، قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَيِ الصَّلَاةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ؟ قَالَ: " كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ".

بل زين مسنده بالحديث عن آل البيت كما زيله بالحديث عنهم, فمن معالم اهتمامه بأهل البيت، أنه قام بإفراد أجزاء من المسند تعنى بأهل البيت منها: مسند أهل البيت, وفضائل أهل البيت, وفضائل علي, ثم ألف كتاباً مستقلاً لم يزل مخطوطا لم يتيسر طباعته بعد, في فضائل آل البيت رضي الله عنهم.

ومن حبه لأهل البيت أنه سمى أبناءه تيمناً بهم وتبركاً، فقد سمى ابنة له زينب، وسمى توأمين له الحسن والحسين ومن ذلك موقفه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من أعيان بل من أفضل آل البيت. فعن أبي العباس بن مسروق، قال: أخبرني عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: كنت بين يدي أبي جالساً ذات يوم، فجاءت طائفة من الكرخية فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان فأكثروا، وذكروا خلافة علي بن أبي طالب فزادوا، وأطالوا، فرفع أبي رأسه اليهم فقال: يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في علي والخلافة، إن الخلافة لم تزين علياً بل علي زينها.

قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستيعاب (3/51 حاشية الإصابة) : "وقال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق القاضي: لَم يُرْوَ في فضائل أحدٍ من الصحابةِ بالأسانيد الحسان ما رُوي في فضائل عليِّ بن أبي طالب.., فرضي الله عن الإمام ورضي عنه.

ولقد ظهر جلياً الأعلام من الحنابلة من آل البيت الذين حملوا مذهب أحمد إلى الدنيا وهذا دليل حب الامام لآل البيت, حيث حمل حبه لآل البيت هؤلاء على حمل مذهبه ونشره وتبليغه في كل مكان.

وهذا الإمام مالك رضي الله عنه صاحب المذهب المالكي على درب أبي حنيفة يسير, وكيف لا وهو إمام دار الهجرة, وكان من من تلامذة الإمام جعفر الصادق, وهذا الأخير هو من أهل بيت النبوة يقول عنه الإمام مالك: كنت آتي جعفر بن محمد فما كنت أراه إلا على إحدى خصال ثلاث: إما مصلياً وإما صائماً وإما يقرأ القرآن, وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة ولا يتكلم في ما لا يعنيه..

ولما حدثت الفتنة في زمن أبي جعفر سنة 146هـ، وقيل سنة 147هـ، وقد ضُرب في هذه المحنة بالسياط، ومُدت يده حتى انخلعت كتفاه، وقد اختلفوا في سببها على أقوال كثيرة أشهرها: أنه كان يحدث بحديث: «ليس على مستكره طلاق»، فاتخذ مروجو الفتن من هذا الحديث حجةً لبطلان بيعة أبي جعفر المنصور، وذاع هذا وشاع في وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن النفس الزكية بالمدينة، فنُهي عن أن يحدث بهذا الحديث، ثم دُس إليه من يسأله عنه، فحدث به على رؤوس الناس، فضُرب.

أما الذي أنزل المحنة بالإمام مالك فهو والي المدينة جعفر بن سليمان، وكان ذلك من غير علم أبي جعفر المنصور، لأن المحنة كانت بعد مقتل محمد النفس الزكية سنة 145هـ، أي بعد أن اجتُثت الفتنة من جذورها، ولكن تذكر رواية أخرى أن أبا جعفر المنصور هو الذي نهى عن التحديث بالحديث، وأنه دس له من يسمع منه، فرآه قد حدث به.

يظهر أن أهل المدينة عندما رأوا فقيهها وإمامها ينزل به ذلك النكال سخطوا على بني العباس وولاتهم، وخصوصاً أنه كان مظلوماً، فما حرض على الفتنة ولا بغى ولا تجاوز حد الإفتاء، ولم يفارق خطته قبل الأذى ولا بعده، فلزم درسه بعد المحنة لا يحرض ولا يدعو إلى فساد، فكان ذلك مما زادهم نقمة على الحاكمين، وجعل الحكام يحسون بمرارة ما فعلوا، لذلك عندما جاء أبو جعفر المنصور إلى الحجاز حاجاً أرسل إلى مالك يعتذر إليه، قال الإمام مالك: لما دخلت على أبي جعفر، وقد عهد إلي أن آتيه في الموسم، قال لي: والله الذي لا إله إلا هو ما أمرتُ بالذي كان ولا علمتُه، إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنتَ بين أظهرهم، وإني أخالك أماناً لهم من عذاب، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة، فإنهم أسرع الناس إلى الفتن، وقد أمرت بعد والله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على قتب، وأمرت بضيق محبسه والاستبلاغ في امتهانه، ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما لك منه، فقلت: عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه، قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله وقرابته منك، قال: فعفا الله عنك ووصلك. فرغم ما وقع به من الأذى إلا أنه عفا من أجل رسول الله وآله عليهم السلام.

ولقد حمل آل البيت مذهبه إلى الدنيا كما حملوا مذهب أبي حنيفة, وكما حملوا مذهب مالك وأبي حنيفة حملوا كما ذكرنا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل.

وهذا يظهر فضل وفضائل أهل البيت على الأمة أنهم حملوا لهم الفقه وبلغوهم الحديث والعلم, وهكذا في سائر العلوم.

هؤلاء هم الفقهاء الأربعة أظهروا حبهم لآل البيت, وعلى دربهم يسير أهل الحديث والأثر, فيفردوا لآل البيت مساحات كبيرة من مؤلفاتهم, فيفرد البخاري أجزاء من صحيحه في فضل أهل البيت, وهكذا مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد.., وغيرهم, وكيف لا وهم حملة حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوصى بآل بيته خيراً.

وللأسف الشديد أن الاتجاهات الإسلامية المعاصرة غفلت عن هذا الحب وانشغلت بفرعيات ما أنزل الله بها من سلطان وتركت هذا الميدان للروافض يرتعون فيه ويغيرون ويبدلون, فعاشوا بين رفض لوث هذا الحب ونصب حقد عليه, وكان موقفهم موقف المتفرج.

ولعل المدرسة الصوفية بكل طرقها تفردت في هذا الميدان وسبقت غيرها كثيراً.. وللحديث بقية حول هذا الموضوع.

دكتور عاطف زيتحار

 

 

 

هناك تعليق واحد: