عاطف أبو زيتحار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دورها في خدمة أمتها ( الدعوة إلى الله والتضحية في سبيلها).
تمهيد :
لقد غفل التاريخ عن إبراز دور المرأة العربية المسلمة في العهد المكي عن خدمتها لأمتها ومجتمعها , فلم يذكر لها إلا مواقف متناثرة هنا وهناك في بطون الكتب , على الرغم من أن كل امرأة مسلمة زوجة كانت , أو أختاً , أو أماً , أو بنتاً , أو عمة , أو خالة , أو جارة , لا يقل دورها عن دور الرجال في هذه المرحلة العصيبة , ولعلني أستطيع تصوير دورها في خدمة أمتها , بومضات النور وسط الظلام , أو الزرع وسط الصحاري , أو نبع الماء العذب وسط المالح .. , وهكذا
لقد ظهر نجم المرأة في العهد المكي خادمة لدينها وأمتها في كثير من مجالات الحياة ومحاورها .., ففي الدعوة إلى الله جرت على ساحاتها ودعت وتحركت مزاحمة الرجال في الميدان , وفي استعذاب العذاب والتضحية والجهاد بذلت وضحت , وفي الحياة الاقتصادية وجدت وكان لها ملكيتها الخاصة , وفي الحياة السياسية كان لها دورها ومشاركاتها , وفي الحياة الثقافية العلمية برز نجمها وإن غفل التاريخ عنها..
ولعلني هنا أذكر بعض المواقف البطولة لها وإن كانت من غير المسلمين , فكم من امرأة غير مسلمة صنعت مواقف بطولة زاحمت بها أكتاف المسلمين من الرجال والنساء ..
الدعوة إلى الله والتضحية في سبيلها
لقد بلغت المرأة في العهد المكي منزلة سامية رفيعة , وزاحمت أكتاف الرجال , ونزلت إلى ميادين لم يستطع الرجال النزول إليها , فبإمكان الرجل أن يدعو بني جنسه من الرجال صغروا أم كبروا, ولكنه لا يستطيع في مجتمع يطارد المسلمين , ويمكر بهم ويضيق عليهم , أن يلتقي بالنساء ليدعوهم إلى الله وهو لا يستطيع دعوة الرجال إلا في حدود ضيقة .
وإذا كانت الدعوة تستلزم التضحية، وتستوجب الصبر على تحمل المكاره، فإن الصحابيات - رضوان الله عليهن - أخذن بنصيب موفور من هذا الجانب، وخير دليل على ذلك أول شهيدة في الإسلام السيدة سمية بنت خياط، أم عمار بن ياسر - رضي الله عنهم جميعا- ، وقد قتلها أبو جهل حين جهرت بالحق في وجهه، واستمسكت بدينها رغم التعذيب الذي نالها وزوجها وولدها.
ولا ننسى في مجال التضحية تحمل الصحابيات للأذى والتعذيب النفسي والجسدي بالحصار الظالم في شعب أبي طالب لثلاث سنوات متوالية، وهجرة بعضهن إلى الحبشة مرتين ثم إلى المدينة، فرارا بدينهن من الفتن.
- ومن المواقف التي أظهرت المرأة فيها حبها لدينها , وحرصها على تبليغه , وغيرتها عليه , وتحملها الأذى في سبيله..,ما رأيناه من أم شريك – رضي الله عنها – التي كانت تنزل إلى النساء وتدعوهم إلى الله بعد هجرة زوجها , ولما انتشر أمرها وذكر اسمها , عذبها القوم فنالت كرم الله وكرامته وفضله وتأييده , فعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال : وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة وهي إحدى نساء قريش ثم إحدى بني عامر بن لؤي , وكانت تحت أبي العكر الدوسي , فأسلمت ثم جعلت تدخل على نساء قريش , فتدعوهن سراً وترغبهن في الإسلام حتى ظهر أمرها بمكة , حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، لكنا سنردك إليهم..., فأخذوها وسيروها إلى قومها( ).
قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعمونني، ولا يسقونني، وكانوا إذا نزلوا منزلا أوثقوني في الشمس واستظلوا هم منها، وحبسوني عن الطعام والشراب، فبينما هم قد نزلوا منزلا وأوثقوني في الشمس إذا أنا ببرد شيء على صدري، فتناولته فإذا هو دلو من ماء، فشربت منه قليلا ثم نزع مني فرفع، ثم عاد فتناولته فشربت ثم رفع، ثم عاد فتناولته ثم رفع مرارا، ثم تركت فشربت حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابى، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ قلت: لا والله، ولكنه كان من الأمر كذا وكذا- قالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا، فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها، فأسلموا عند ذلك( ).
وروى بن سعد بسنده في الطبقات : عن منبر بن عبيد الله الدوسي , قال: أسلم زوج أم شريك الدوسية وهو أبو العكر –رضي الله عنه - فهاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أبي هريرة –رضي الله عنه - ومع دوس حين هاجروا قالت أم شريك : فجائني أهل أبي العكر , فقالوا: لعلك على دينه , قلت: أي والله إني لعلى دينه , قالوا : لا جرم لنعذبنك عذابا شديدا , فارتحلوا بي على جمل ثفال شر ركابهم وأغلظها , يطعموني الخبز بالعسل ولا يسقوني قطرة من ماء , حتى إذا انتصف النهار وسخنت الشمس ونحن قائظون نزلوا , فضربوا أخبيتهم وتركوني في الشمس حتى ذهب عقلي وسمعي وبصري , ففعلوا ذلك بي ثلاثة أيام , فقالوا لي في اليوم الثالث: اتركي ما أنت عليه , قالت: فما دريت ما يقولون إلا الكلمة بعد الكلمة , فأشير بإصبعي إلى السماء بالتوحيد , قالت: فوالله إني لعلى ذلك وقد بلغني الجهد إذ وجدت برد دلو على صدري , فأخذته فشربت منه نفسا واحدا ثم انتزع مني , فذهبت أنظر فإذا هو معلق بين السماء والأرض فلم أقدر عليه ,ثم دلي إلي ثانية فشربت منه نفسا ثم رفع فذهبت أنظر فإذا هو بين السماء والأرض , ثم دلي إلي الثالثة فشربت منه حتى رويت وأهرقت على رأسي ووجهي وثيابي , قالت :فخرجوا فنظروا , فقالوا: من أين لك هذا ؟ قلت: من عند الله رزقا رزقنيه الله , فانطلقوا سراعا إلى قربهم وأداواهم فوجدوها موكاة لم تحل , فقالوا : نشهد أن ربك هو ربنا وأن الذي رزقك ما رزقك في هذا الموضع بعد أن فعلنا بك ما فعلنا هو الذي شرع الإسلام , فأسلموا وهاجروا جميعا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا يعرفون فضلي عليهم وما صنع الله بي وهي التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم- فقالت عائشة –رضي الله عنها -: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير , فأنزل الله : " وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ"( ) , فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة –رضي الله عنها- : إن الله ليسرع لك في هواك( ).
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : كانت امرأة من دوس يقال لها أم شريك أسلمت فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلقيت رجلا من اليهود , فقال: تعالي فأنا أصحبك , قالت: فانتظرني حتى املأ سقاي ماء , قال: معي ماء , فانطلقت معه فساروا حتى أمسوا فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشى , وقال : يا أم شريك تعالي إلى العشاء , قالت: اسقني فإني عطشى ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب , قال: لا أسقيك قطرة حتى تهودي , قالت: والله لا أتهود أبدا , فأقبلت إلى بعيرها فعقلته ووضعت رأسها على ركبته , قالت: فما أيقظني إلا برد دلو قد وقع على جبيني , فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل , فشربت حتى رويت ثم نضحت على سقاي حتى ابتل , ثم ملأته , ثم رفع بين يدي وأنا أنظر حتى توارى مني في السماء , فلما أصبحت جاء اليهودي , فقال : يا أم شريك , قلت: والله قد سقاني الله , قال : من أين أنزل عليك من السماء , قلت: والله لقد أنزل الله على من السماء ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء ثم أقبلت حتى دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوهبت له بضعها فزوجها زيدا وأمر لها بثلاثين صاعا , وقال كلوا ولا تكيلوا وكان معه معها سمن هدية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – , فقالت: لجارية لها بلغي هذه العكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلقت بها فأخذوها ففرغوها وقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : علقوها ولا توكوها فعلقوها في مكانها , فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمنا , فقالت: يا فلانة أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قالت: قد والله انطلقت بها كما قلت , ثم قلت: ثم أقبلت بها أصوبها ما يقطر منها شيء ولكنه قال: علقوها ولا توكوها فعلقتها في مكانها فأكلوا منها حتى فنيت ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعا لم ينقص منه شيء( ).
هكذا تكون بركة الدعوة وكرامتها , والتضحية في سبيلها , تظل باقية ما بقي الزمن , وشاهدة ما بقيت الأمم , وتاركة هذا الأثر مخلدا في ذاكرة الأجيال يشهد لامرأة نزلت إلى ميادين الدعوة تدعو بني جنسها إلى الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم , في حدود المتاح لها , فأين منها رجالات العصر الذين أكل منهم التثاؤب وشرب !!
- وأما الموقف الثاني فهو موقف أم أيمن – رضي الله عنها - فعن عثمان بن القاسم قال: خرجت أم أيمن – رضي الله عنها - مهاجرة إلى رسول الله - صلى الله وسلم - من مكة إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد، وهي صائمة في يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد حتى كادت تموت من شدة العطش , قال: وهي بالروحاء أو قريبا منها, قالت: فلما غابت الشمس إذا أنا بحفيف شيء فوق رأسي، فرفعت رأسي فإذا أنا بدلو من السماء مدلى برشاء – حبل – أبيض, قالت: فدنا منى حتى إذا كان بحيث أستمكن منه تناولته، فشربت منه حتى رويت, قالت: فلقد كنت بعد ذلك في اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش فما عطشت بعدها( ).
( وهذا الموقف جدير بالتأمل، لندرك إلى أي مدى كان الحرص على الصيام رغم انعدام الزاد ومشقة الطريق ومطاردة الأعداء لهذه الصحابية الجليلة التي خرجت بمفردها، رغبة في مرضات الله، وفرارا بدينها من الفتن، ومن ثم كانت هذه الكرامة التي ساقها الله إليها، تقديرا من الله تعالى لتضحياتها وجهادها في سبيل دينها( ).
من أروع النماذج في هذا المجال أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها- ، والتي سبق الحديث عنها , حيث (كانت ملاذا آمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قامت قبل الدعوة وتبليغ الوحي بمساعدة النبي - صلى الله عليه وسلم - على التعبد بغار حراء بما كانت تزوده به مما يحتاج إليه، وحين جاءه المَلَكُ، وجاء يرجف فؤاده قائلاً لها: لقد خشيت على نفسي، قالت له كلمتها المشهورة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق. وأخذت بيده - رضي الله عنها - إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وحكى له ما حدث، فبشره بأن هذا هو الناموس (الوحي) الذي كان يأتي إلى موسى، وبشره بأنه سيكون نبي هذه الأمة، وبادرت السيدة خديجة رضي الله عنها قبل غيرها بالإيمان به، فكانت أول من آمن من الرجال والنساء على السواء. وبذلت السيدة خديجة من مالها ونفسها في صالح الدعوة الكثير والكثير، وتحملت الأذى في سبيلها، فحُبسِت مع زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في شعب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة حتى أكلوا أوراق الشجر من الجوع والجهد، وظلت تنافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وتشد من أزره، فكانت نعم المعين والسند( ).
قال ابن إسحاق: وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره": كانت أول من آمن بالله سبحانه وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس "( ) وشاء الله تعالى أن ترحل السيدة خديجة رضي الله عنها من الدنيا بعد خروج المسلمين من الحصار بثلاثة أيام فقط، فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفراقها أشد الحزن، وسمى العام الذي توفيت فيه مع عمه أبي طالب بعام الحزن، حيث كان عمه سنداً له في الخارج، والسيدة خديجة سنده في الداخل، فما إن ماتا حتى نال المشركون منه ما لم يكن بإمكانهم فعله من قبل.
فما أجمل أن تترسم كل امرأة مسلمة خطى هذه السيدة الفاضلة التي طوقت أعناق الرجال والنساء بمعروفها، حين بذلت النفس والنفيس في سبيل دعوة الحق، وقدمت كل شيء لنصرة دين الله تعالى، فاستحقت الثناء الجميل من الله تعالى، والذكر الطيب على ألسنة الناس حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وصدق ربنا عز وجل: "إِنا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً"( ).
- ومن الموقف الدعوية أيضاً للنساء في العهد المكي ما حدث في دار الأرقم بن أبي الأرقم , التي كانت ( في أصل الصفا، بعيدة عن أعين الطغاة ومجالسهم، فاختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجتمع فيها بالمسلمين سرًا، فيتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وليؤدى المسلمون عبادتهم وأعمالهم، ويتلقوا ما أنزل الله على رسوله وهم في أمن وسلام، وليدخل من يدخل في الإسلام ولا يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة ( ).
في هذه الدار أسلم نسوة , ودعوا غيرهن إلى الإسلام منهن أم الخير , أم أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – وأم جميل بنت الخطاب –رضي الله عنها- , قال المحب الطبري في الأربعين الطوال: أم الخير سلمى بنت صخر أسلمت قديماً في دار الأرقم بن أبي الأرقم وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وماتت مسلمة ذكره الحافظ الدمشقي , وصاحب الصفوة وغيرهما عن عائشة –رضي الله عنها - قالت : لما اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر –رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهور , فقال:" يا أبا بكر إنا قليل , فلم يزل يلح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وتفرق المسلمون في نواحي المسجد , وقام أبو بكر – رضي الله عنه - في الناس خطيباً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وكان أول خطيب دعا إلى الله - عز وجل- وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - , وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين , فضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً , ووطيء أبو بكر وضرب ضرباً شديداً , ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة , فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه وأثر ذلك حتى ما يعرف أنفه من وجهه , وجاءت بنو تيم تتعادى فأجلوا المشركين عن أبي بكر وحملوا أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه بيته ولا يشكون في موته , ورجع بنو تيم فدخلوا المسجد , وقالوا : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة , ورجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم , فتكلم آخر النهار : ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فنالوه بألسنتهم وعذلوه , ثم قاموا وقالوا لأم الخير بنت صخر : انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه , فلما خلت به وألحت جعل يقول ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : والله ما أعلم بصاحبك , قال: فاذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه , فخرجت حتى جاءت إلى أم جميل , فقالت إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله , قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن تحبي أن أمضي معك إلى أبنك فعلت , قالت : نعم , فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً , فدنت منه أم جميل وأعلنت بالصياح , وقالت: إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق وإن لأرجو أن ينتقم الله لك , قال : ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ؟ قالت: هذه أمك تسمع , قال: فلا عين عليك منها , قالت: سالم صالح , قال: فأين هو؟ قالت: في دار الأرقم , قال :فإن لله علي ألية( ) أن لا أذوق طعاماً ولا شراباً أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس , خرجت به يتكئ عليهما حتى دخلتا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فانكب عليه , فقبله وانكب عليه المسلمون ورق له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقة شديدة , فقال أبو بكر –رضي الله عنه -: بأبي أنت وأمي ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي , هذه أمي برة بوالديها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله عز وجل لها عسى أن يستنقذها بك من النار , فدعاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت , فأقاموا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً وهم تسعة وثلاثون رجلاً وكان إسلام حمزة يوم ضرب أبي بكر( ).
إنه التكامل الدعوي بين الرجال والنساء , والتناغم الفكري , والفهم السديد والرشد العالي , والحس الأمني الراقي بين أم جميل وأبي بكر – رضي الله عنهما – في الحفاظ على الدعوة , انظر إليها وهي تقول : هذه أمك!! , أي تسمع قولنا وتعلم بحالنا , فنؤذى ويضيق علينا , فهل هي درع أم سهم ؟ , فأخبرها بما وجده من أمه من أمانة وكتمان للسر , وهي في طريقها إن شاء الله إلى الله , والأجمل في الكتمان , عندما طرقت أم الخير بابها , فأنكرت معرفتها بحامل هذا الدين ومن معه..
إن هذه السرية في العهد المكي كانت ضرورة دعوية , وفريضة شرعية , وهي معلم من معالم هذه المرحلة، حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية صارمة وواضحة على وجوب المحافظة عليها..
إن دار الأرقم ارتادتها وترددت عليها كثير من المسلمات , منهن : فاطمة بنت الخطاب : زوجة سعيد بن زيد , وأسماء بنت سلامة زوجة عياش بن ربيعة , وأسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي طالب , وفاطمة بنت المجلل زوجة حاطب بن الحارث ، وفُكَيهة بنت يسار زوجة حطاب بن الحارث , و أُمَينة بنت خلف زوجة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي .., وغيرهن كثير ..
ومما يذكر لفاطمة بنت الخطاب التي تربت في دار الأرقم أنها كانت سببا في إسلام عمر – رضي الله عنه - , وذلك عندما أظهرت تعاليم دينها , ورفعت راية قرآنها في وجهه , غير خائفة من شدته وبطشه ..
روى مجاهد عن ابن عباس – رضي الله عنهما - قال : سألت عمر-رضي الله عنه - عن إسلامه فقال : خرجت بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام فإذا فلان المخزومي وكان قد أسلم , فقلت : تركت دين آبائك واتبعت دين محمد , قال : إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني ! قلت : من هو قال : أختك وختنك ؛ قال : فانطلقت فوجدت الباب مغلقا وسمعت همهمة ففتح الباب فدخلت فقلت : ما هذا الذي أسمع قالت : ما سمعت شيئا , فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني فضربته فأدميته فقامت إلي أختي فأخذت رأسي فقالت : قد كان ذاك على رغم أنفك ! قال : فاستحييت حين رأيت الدم , وقلت : أروني هذا الكتاب...( ).
وفي رواية : فلما سمعوا حس عمر –رضي الله عنه - قاموا مبادرين فاختبئوا ونسوا الصحيفة على حالها، فلما دخل ورأته أخته عرفت الشر في وجهه، فخبأت الصحيفة تحت فخذها قال: ما هذه الْهَيْنَمَة والصوت الخفي التي سمعته عندكم؟ - وكانوا يقرؤون طه - فقالا: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا؛ قال: فلعلكما قد صبوتما، فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر –رضي الله عنه - على ختنه سعيد وبطش بلحيته فتواثبا، وكان عمر قوياً شديداً، فضرب بسعيد الأرض ووطئه وطأ ثم جلس على صدره، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عدو الله، أتضربني على أن أوحّد الله؟ قال: نعم, قالت: ما كنت فاعلاً فأفعل، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لقد أسلمنا على رغم أنفك، فلما سمعها عمر ندم وقام عن صدر زوجها، فقعد، ثم قال: أعطوني هذه الصحيفة التي عندكم فأقرأها، فقالت أخته: لا أفعل. قال: ويحك قد وقع في قلبي ما قلت، فأعطينيها أنظر إليها، وأعطيك من المواثيق أن لا أخونك حتى تحرزيها حيث شئت , قالت: إنك رجس فـ" لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ "( ) , فقم فاغتسل أو توضأ، فخرج عمر ليغتسل ورجع إلى أخته فدفعت إليه الصحيفة وكان فيها طه وسور أخرى فرأى فيها: بسم الله الرحمن الرحيم , فلما مرّ بالرحمن الرحيم ذعر، فألقى الصحيفة من يده، ثم رجع إلى نفسه فأخذها فإذا فيها: " طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرض وَالسَّمَواتِ الْعُلاَ الرحمن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى"( ) ..., فعظمت في صدره , فقال: من هذا فرّت قريش؟ ثم قرأ.., فلما بلغ إلى قوله تعالى: " إنّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى"( ) , قال: ينبغي لمن يقول هذا أن لا يُعبد معه غيره دلوني على محمد"( ).
إن في ثبات فاطمة أمام عمر دعوة راقية , لا يفقهها إلا من ذاق طعم الثبات على دين الله رغم التشكيك فيه, وإشاعة الأراجيف من حوله , وظلم أتباعه وقتلهم ونفيهم , وتشريدهم في الأرض , وإغرائهم بشراء ضمائرهم وذممهم , ثبات أمام البطش والتخويف , وكر الزمان وتقلبه وفتنه .., إنها الدعوة الصامتة التي تزلزل كيان القياصرة والجبابرة .., إنها فاطمة التي تدعوا من أصيب بالخنوثة من رجال العصر أن اثبتوا على مبادئكم فالمبادئ لا تتجزأ .
- والموقف الذي يساوق موقف فاطمة إن لم يسبقها في الثبات والتضحية والثبات على دين الله , هو موقف زنيرة وصويحباتها – رضوان الله عليهم – حيث أخرج أبو نعيم في معرفة الصحابة بسنده عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه – رضي الله عنهما- قال: أعتق أبو بكر – رضي الله عنه - معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب بلال سابعهم، منهم زنيرة، فأصيبت ببصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله إليها بصرها ( ).
قال محمد بن يوسف في سبل الهدى والرشاد زنيرة - بزاي فنون مشددة مسكورتين فمثناة تحتية ساكنة وهي في اللغة الحصاة الصغيرة ويروي: زنبرة بزاي مفتوحة فنون ساكنة فباء موحدة - الرومية كان عمر بن الخطاب وأبو جهل يعذبانها.
قال البلاذري: قالوا وكان أبو جهل يقول : ألا تعجبون لهؤلاء واتباعهم محمدا ؟ فلو كان ما أتى به محمد خيرا وحقا ما سبقونا إليه أفسبقتنا زنيرة إلى رشد وهي من ترون؟.
وكانت زنيرة قد عذبت حتى عميت , فقال لها أبو جهل : إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين , فقالت، وهي لا تبصر: وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد بصري؛ فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد فاشتراها أبو بكر - رضي الله عنه- فأعتقها.
- ومن هؤلاء أيضا أم عنيس - بعين مهملة مضمومة فنون فمثناة تحتية فسين مهملة - ويقال عبيس( ) بباء موحة فمثناة تحتية , وهي أمة لبنى زهرة، وكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها فابتاعها أبو بكر-رضي الله عنه -.
- ومنهن النهدية وابنتها , وكانت مولدة لبني نهد بن زيد فصارت لامرأة من بني عبد الدار فكانت تعذبهما وتقول: والله لا أقلعت عنكما أو يعتقكما بعض من صبأ بكما , فمر بهما أبو بكر - رضي الله عنه - وقد بعثتهما في طحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا فقال: حل يا أم فلان فقالت حل أنت والله أفسدتهما فأعتقهما , قال: فبكم هما ؟ قالت: بكذا وكذا , قال: قد أخذتهما به وهما حرتان أرجعا إليها طحينا قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها قال: إن شئتما.
- ومنهن أم بلال حمامة , ذكرها أبو عمر في الدرر فيمن كان يعذب في الله فاشتراها أبو بكر وأعتقها , وأهملها أبو عمر في الاستيعاب واستدركوها على الاستيعاب( ).
يا لها من مواقف يشيب من هولها الولدان , ويتعجب منها الإنس والجان , فهذه امرأة تعذب وتكوى , فيشتريها من رق لها ورجا الثواب من ربها , ويطلب منها أن تسلم ما في يدها من عجين فأبت إلا أن تتم عملها , لأن دينها علمها , وخلقها أبى عليها , إنها أرادت أن تبعث برسالة أخلاقية دعوية لمن عذبتها في الله – عز وجل – أن ديننا يأمرنا أن نحسن العمل وأن نتقنه على أكمل وجه , وكأني بها وهي تبعث برسالة أصولية بأن من تلبث بمسألة علمية وجب عليه أن يتمها , ومن تلبث بالجهاد حرم عليه الخروج حتى ينتهي الجند من مهمتهم , ومن انغمس في حق من حقوق الأخوة وجب عليه اتمامه كغسل الميت وتكفينه .., إنها رسائل كثيرة مهمة ينبغي أن نتعلمها , إنها امرأة ضعيفة ترزخ تحت نيران الظلم منذ سنين وأتيحت لها الفرصة كي تنطلق من العبودية إلى الحرية , ومن الظلم والقهر إلى العدل والرحمة , فأبت إلا أن تتم عملها , لو كان غيرها لفر من تحت أيديهم كفرار الطائر من قفصه الذي حبس فيه , ولكنها أبت أن تخرج إلا بعد أن تعلم من آذتها وعذبتها في الله , أن أخلاقنا غير أخلاقكم , وأن ديننا غير دينكم ..
إن هذه المواقف مجتمعة لتؤكد أن المرأة نصف المجتمع، أكرمها الله تعالى، وجعلها من الرجل، ومعه "بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ"( ) فتحقق لها بالإسلام الحقوق التي كانت محرومة منها.
وقد كلف الله تعالى المرأة بالإسلام، وحدد لها دورها في إطار أسرة كريمة، وفي حركة مجتمع طاهر، ولعل ما نشير إليه هنا دورها في حركة الدعوة إلى الله تعالى، فالمرأة هي أم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي أرضعته، ونشأته وأشرفت على تربيته.
وهي زوجة الرسول –صلى الله عليه وسلم -، آمنت به، وصدقت برسالته، وأغنته بمالها، ويسرت له الطريق بأمر الله تعالى، فكانت خير عون على تبليغ الرسالة.
لقد كانت خديجة - رضي الله عنها - بأمر الله خير معين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتبع خبره، وتطمئن عليه، وتسعى لتعرف حقيقة ما كان يراه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مبدأ بعثته - صلى الله عليه وسلم - .
ولقد شاركت المرأة العربية في مكة في حركة الدعوة منذ البداية.. وها هي زوجة عمار-رضي الله عنه - ، تتحمل الأذى في سبيل الله تعالى، وتقبل الموت راضية مرضية؛ لتصير أول شهيدة في الإسلام.
وهناك عدد من السابقات إلى الإسلام، منهن من هاجر إلى الحبشة، ومنهن من هاجرت إلى المدينة، ومنهن من بقيت صامدة في مكة.
وقد اشتركت امرآتان في بيعة العقبة الثانية، وبايعتا رسول الله –صلى الله عليه وسلم - بيعة الحرب، وصدقتا في بيعتهما، فلقد سقطت أم عمارة جريحة في غزوة أحد، وفي جسدها اثنا عشر جرحًا.
وتلك إشارات تؤكد دور المرأة في حركة الدعوة إلى الله تعالى، ويجب على المسلمين تنشئة بناتهم على الإيمان الصادق، وحب الدعوة إلى الله، ومداومة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لتكون المرأة هي المدرسة الصالحة لتخريج جيل صالح مؤمن.
والمرأة في العصر الحديث يمكنها أن تؤدي للدعوة خدمات جليلة عن طريق أبنائها وبناتها، ويمكن أن تحيط أسرتها بسياج يحميها من أي فساد في الخلق والسلوك.
ويمكن للمرأة المسلمة أن تحول بيتها إلى مركز للإشعاع والخير لأولدها ولجاراتها وصديقاتها، فتسفيد بأوقات الفراغ في مدارسة فكرة دينية، أو حفظ آية قرآنية، أو قراءة حديث نبوي شريف.
إن المرأة المسلمة يمكنها عن طريق الاشتراك في الجمعيات الخيرية والوطنية من تقديم الإسلام عمليا لأخواتها، وبذلك تكون سببا في تعليم الإسلام للناس.
إن الفراغ عند المرأة كثير، وبدل أن يضيع في متابعة الأفلام، والمسلسلات، والجلوس الطويل أمام التليفزيون، يمكنها أن تحول بيتها إلى مدرسة صغيرة، تتلى فيه آيات الله والحكمة، وذلك فضل يوفق الله من يشاء من عباده له.
إن الإسلام لم يقف حائلا أمام المرأة أبدا، فهي نصف المجتمع، وأمها وأخواتها وبناتها وصديقاتها وجيرانها في حاجة إليها.
ويوم أن تقوم المرأة المسلمة بواجبها فإنها تقدم عملا عظيما للمجتمع وللناس.
ولم يبخل الإسلام على المرأة بعلم أو تعليم، فطلبها العلم فريضة كطلب الرجل له، وقيامها بالتدريس والدعوة أمر مقرر في دين الله تعالى، وها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تروي الأحاديث لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وكانت مصدر فتوى للمسلمين، ولقد شاركت في الحياة العامة والأنشطة العملية.
ومن هنا نؤكد على ضرورة اشتراك المرأة المسلمة في حركة الدعوة استنباطا من سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحركته بالدعوة إلى الله تعالى( ).
أسأل الله أن يعلم رجال ونساء العصر من حنكة وفهم وتضحية ودعوة نساء الأمس , وأن يخرجهم من السكون إلى الحركة , ومن التثاؤب إلى العطاس , وأن يخرجوهم من دوائر التثاؤب وسوء الفهم , إلى الرشد واليقظة , فيخدموا دينهم ويضحوا من أجله كما ضحى هؤلاء .
بالتوفيق يارب
ردحذفويوفقنا جميعا لكل خير
حذف